لطيف نعمان سياوش
هي ليست حكايه من حكايات الف ليله وليله ، ولا أسطوره من اساطير تراجيديات سوفوكليس ويوربيدس وأسخيلوس ، ولا من حكايات هولاكو وجنكيزخان والسلطان العثماني ، ولا من نكبات الارمن والاشورين بين الاعوام 1915-1920 ..انها حكاية حقيقية غارقة في الوجع لعائلة يتقاذفها الظلم من مدينة الى اخرى ليس لسبب الا لأنها كلدو آشوريه:
– جلس القرفصاء ، قطب حاجبيه ، ونفث دخان سيكارته في الفضاء. قال بألم:
لن أغوص في التفاصيل لأن ذلك يتطلب وقتا طويلا.. عليه سألخص لكم قصتي..
منذ ستينات القرن الماضي اسكن وعائلتي في بغداد منطقة الدوره حي الآثورين.. بعد تخرجي من الجامعه تم تعيني في وزارة الزراعه.. تزوجت وأستقريت.. كانت حياتنا حلوه.. رزقنا الله ثلاث بنات..
كانت منطقتنا تعج بالعوائل الاشوريه.. لكن بعد السقوط تغيّرت كثير من الامور، وتفشت الفوضى، وغاب النظام، وبدأت العديد من العوائل بالهجره لتحل محلها عوائل غريبه، بعضها جاءت من خارج المحافظه..
أما نحن كنا مصرين أن نبقى مع كثير من العوائل برغم كل شيء..عام 2005 في احدى الصباحات الشتويه تفاجئنا بوجود رساله تهديد مرميه في حوش الدار تحتوي على اطلاقه مع ورقه مكتوبه بخط رديء وعبارات مليئة بالاخطاء الاملائيه مفادها (اما أن نتصل بالرقم الفلاني لنسلمهم مبلغ 9000 دولار غدا، أو مغادرة المنطقه خلال مدة أقصاها اسبوع.. بخلافه يختطفون بناتي الثلاث)!!
في بحر 10ساعات أكملنا استعداداتنا لمغادرة الدار مع أول خيوط الظلام تاركين كل شيء، وأكتفينا بأخذ الحقائب والوثائق واجهزة الحاسوب وارشيف العائله، وبعض الخردوات الاخرى..
كانت قبلتنا مدينة الموصل (مسقط رأسي).. وصلنا الموصل وكان اخي في استقبالنا وبعد ان بقينا عندهم مدة اسبوع وجدنا بيتا صغيرا مناسبا بالقرب من بيت اخي وفي فترة قياسيه تمكنت من تأثيث الدار واستقرينا تماما..
عام 2010 وردتني مكالمة هاتفيه من شخص غريب لا اعرفه كان يتكلم بأسلوب غير مهذب يخيّرني بين (أن أترك المدينه خلال ثلاثة ايام، أو أعرض نفسي وعائلتي لخطر الموت)!!
رزمنا أمتعتنا وشدينا الرحال في اليوم التالي من التهديد متجهين الى سهل نينوى، تحديدا الى قضاء الحمدانيه.. تمكنت هناك من شراء هيكل قديم لدار صغيره لم يكتمل بناؤها.. بذلت كل جهدي وما بقي عندي من مال الى أن أكملت بناء الدار ، كانت المحله جميها والجيران من ابناء شعبنا تدعوا الى الاطمئنان والامان.. استقرينا هناك بضعة سنوات الى أن أوشك الدواعش دخول المدينه في آب 2014..
أضطررت أن أهاجر نازحا مع عائلتي لنشارك جميع العوائل الاخرى محنة ترك الديار، لكن عائلتي تختلف عنهم لأنها الوحيده التي اجبرت على الهجره لثلاث مرات، وأتجهنا صوب دهوك، وهناك….
قبل أن يكمل حديثه سأله أحد الذين كان يصغي اليه بأهتمام كبير: هل لديك أقرباء خارج العراق؟..
قال: كثر..
أستغرب الجميع، وقال أحدهم: ما الذي يبقيك هنا يا أخي مادام هذا حالك وحال عائلتك؟ ولطالما أقرباؤك خارج العراق..
صمت طويلا واخرج من علبته سيكارة اخرى واشعلها وقال بحسرة: لقد بلغ رصيدي من التهّجير ثلاث، ولكن مع هذا وذاك
بيني وبين الوطن حبل سري
أرفض أن أنفصل منه
ويأبى أن ينفصل مني..
المقال منشور في العدد 658 من جريدة بهرا..