يعقوب كوركيس
يعاني المسيحيين بصورة عامة في الشرق الاوسط اوضاع حياتية صعبة في مختلف المجالات، نتيجة سوء المعاملة، والتضييق عليهم، وصولا الى التمييز السياسي ضدهم، سواء في التوظيف الحكومي والتعامل الاقتصادي او امام القانون والمشاركة السياسية.
ولا يخلو بلد من بلدان التواجد المسيحي الأصلي في الشرق الاوسط، الا وكانت هذه المعاناة ظاهرة وجلية في المجتمع الكبير المغاير لهم، والذي يعيشون في وسطه، ونتيجة لاستمرار هذه الوضع لعقود متوالية فان الامر اصبح اشبه ما يكون بسياسات ممنهجة ضدهم من قبل الحكومات او مؤسسات متنفذة في السلطة او محمية بها.
-العراق ما بعد ٢٠٠٣
لقد استبشر اغلب العراقيون بمختلف دياناتهم وقومياتهم خيرا بالتغيير في ٢٠٠٣ ممنين النفس بالانتقال من النظام الدكتاتوري الشمولي الى نظام ديمقراطي تعددي، ودستور دائم، يضمن حقوق متساوية لجميع مكونات الشعب، بغض النظر عن الانتماءات الدينية والقومية او المناطقية، وذلك بعد معاناة طويلة تحت نير نظام قمعي دموي، ادخل البلاد والعباد في أتون صراعات وحروب داخلية وخارجية أتت على كل مقدرات الوطن وأفنت خيرة شبابه. ولكن الذي حصل ان العراق انتقل الى وضع اسوأ في نواح عدة، بسبب سياسات وممارسات الجماعات الحاكمة، مما ادى الى تحول البلاد الى ساحة مستباحة للصراعات والحروب بالوكالة، وساد الفساد، وتعمقت الخلافات الداخلية، وبرز الاصطفاف الطائفي الذي قسم البلاد واهلها كل حسب طائفته، ومن ثم ولائاته الداخلية والخارجية، وانتكست المواطنة، وضاعت هيبة الدولة، وضعفت سلطة القانون ومورست سياسات التمييز، وتحكمت مراكز القوى المختلفة والمتناقضة المصالح بسياسات الدولة وصولا الى سقوط العديد من المحافظات والمناطق بيد تنظيم داعش الارهابي.
-معاناة المسيحيين بعد ٢٠٠٣
في ظل هذا الوضع الشاذ عاش المسيحيون العراقيون والذين هم بمجملهم ينتمون الى المكون القومي الكلداني السرياني الاشوري، اوضاع حياتية صعبة ومعقدة للغاية بعد ٢٠٠٣ ، وكانت اعداد المسيحيين في العراق وفق احصاء الدولة الرسمي للعام ١٩٨٧ تزيد عن مليون وثلاثمائة الف نسمة عدا المهاجرين الى الخارج، وهم موزعون في مختلف محافظات ومناطق العراق من شماله الى جنوبه، وبذلك يكونون حلقة ضعيفة في النسيج المجتمعي العراقي، نتيجة لعدم امتلاكهم ديموغرافية الاكثرية او جغرافية سياسية يشكلون عليها أغلبية سكانية تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، وحماية ممتلكاتهم، عندما تغيب سلطة الدولة وتفقد قدرتها على حماية رعاياها، كما فعل الكورد او الشيعة وحتى السنة، هذه المكونات التي احتمت بمظلة الطائفة والقومية عندما اهترت وتشققت المظلة الوطنية. وبالمحصلة تعرض المسيحيون الى استهدافات مباشرة، في البصرة، وبغداد مركز الدولة، ونينوى العاصمة التاريخية لأجدادهم الاشوريين، وكركوك مدينتهم المحببة، وتم تفجير عشرات الكنائس وقتل المئات منهم او تعرضوا للخطف لغرض الفدية، والاستيلاء على ممتلكاتهم وعقاراتهم من قبل متنفذين في الدولة او مليشيات طائفية او متنفذين في السلطة، ومنعوا من مزاولة أعمالهم وتمشية مصالحهم بذريعة الشريعة او القوانين المستمدة منها. كل هذه الممارسات كانت تضييق الخناق على المسيحيين في عموم البلاد، مما اضطرهم الى الهجرة وترك وطن آبائهم وأجدادهم، والذي شهد لمئات العقود بزوغ فجر حضارتهم وإبداعاتهم في مختلف مجالات الحياة، وقدموا للبشرية ما تفتخر به الى اليوم، وقد تناقصت أعدادهم بصورة تصاعدية مع استمرار مسلسل الاستهداف والتضييق، وصولا الى قدوم تنظيم داعش الارهابي، واحتلاله لمحافظة نينوى مركز التواجد المسيحي بعد العاصمة بغداد، وخصوصا مناطق سهل نينوى الموطن التاريخي للآشوريين المسيحيين في ٧ آب ٢٠١٤، اذ بالرغم من عدم وجود احصاء رسمي لاعداد المسيحيين، الا ان المتوقع وفق المعلومات فان اعدادهم حاليا لا تزيد عن نصف مليون في الوطن وعشرات الالاف من العوائل موزعين في مهاجر دول الجوار من تركيا والاردن ولبنان بامل الهجرة الى اوربا، كندا، امريكا او استراليا، هذه الدول الغربية التي استقبلت مئات الالاف منهم وبصورة خاصة بعد سيطرة داعش على محافظات عدة وتحديدا نينوى وسهلها، موطن الاباء والاجداد٠
-وضع المسيحيين في ظل داعش الارهابي
خلال ساعات معدودة تم تهجير اكثر من ١٨٠ الف مسيحي من سكان سهل نينوى والموصل في الفترة من ١٠ حزيران ٢٠١٤ لغاية ٧ آب ٢٠١٤، تاركين خلفهم كل ممتلكاتهم واراضيهم ومصالحهم، ليتحولوا من مواطنين يعيشون بكرامة في ارضهم، الى مهجرين في الطرقات والأزقة، بدون مآوى او مسكّن، يفترشون الساحات العامة والحدائق في اربيل ودهوك وكركوك وبغداد ومناطق اخرى في دول الجوار .
كانت مرحلة تسلط داعش الارهابية الفترة الاسوأ التي حلت بالمسيحيين بعد عام ٢٠٠٣، ونتيجته كانت اكثر كارثية مما سبقها من الاستهدافات ضدهم خلال السنوات العشر السابقة، وبسببه تهجروا من مناطقهم، ومكثوا ثلاث سنوات عجاف يعيشون في ظل ظروف حياتية لا تليق بكرامة الانسان، منهم من تحمل على امل ان يعود الى ارضه وبيته، ومنهم من يأس من هذا الوضع وترك الوطن الى المهاجر البعيدة، وبذلك خسر المسيحيون اعداد هائلة من أقرانهم قد تصل الى نسبة ٢٥٪ ممن هجرتهم داعش الارهابية، ليعود الباقين منهم والامل يحدوهم في غد افضل وحياة كريمة في ارضهم.
-الوضع المسيحي بعد داعش الارهابي
عاد المسيحيون المهجرون وقد خسروا ما يقارب ٢٥٪ من نسبتهم السكانية بسبب هجرة الوطن، عادوا الى بيوت محروقة ومصالح مدمرة وأرض بور وبنية تحتية خربة ووضع امني قلق، ومناطقهم في سهل نينوى التاريخي مقسمة بين سلطة الحكومة الاتحادية وحكومة أقليم كردستان، والحكومتان عجزتا عن تقديم اي خدمات او دعم للعائدين بقصد او بغيره، ومازال العجز الحكومي مستمرا لحد الان، واغلب ما تم انجازه في هذه المناطق هو بجهود وأموال خاصة او بدعم من منظمات دولية من الامم المتحدة ودعم الحلفاء واخرى محلية، ولم يعوض اي من ابناء المنطقة من قبل الحكومة على ما خسره، ولم ينل منها ما يحفزه للتشبث واعادة البناء والتعمير. ولولا حب المسيحي الكلداني السرياني الاشوري لأرضه واستعداده للتضحية من اجلها لما بقي مسيحي واحد يشهد لحضارة اجداده. وهذا ما حصل الان، حيث ساهم المسيحيون من ابناء سهل نينوى في تحرير مناطقهم عبر جهود عسكرية وتشكيل قوات نظامية وخير مثال وحدات حماية سهل نينوى NPU، ومن ثم مسك الارض بعد التحرير، وإدارة الملف الامني في مناطقهم الى جانب بقية القوى الامنية الاخرى، وتأمين مناطقهم والإشراف على اعادة المهجرين الذين شرعوا بتعمير بيوتهم التي حرقها داعش وزراعة ارضهم واعادة تاسيس أعمالهم ومصالحهم، لتعود الحياة مرة اخرى الى المنطقة التي حاول داعش الارهابي قتلها وإماتتها. وفي كركوك لا زالت المدينة تعيش اوضاعا مقلقة بسبب الصراع بين السلطات في الاقليم والحكومة الاتحادية على خلفية ولاء المحافظة اداريا، وتسعى القوى الكوردية ضمها الى الاقليم، مما يخلق اجواءا مقلقة للجميع، وبصورة خاصة بين المكونين العربي والتركماني بولائهم الوطني الاتحادي من جهة، والمكون الكوردي وموالاته للاقليم من جانب اخرى، مما ينعكس على الاوضاع السياسية المرتبكة دائما وبالتالي انعكاس ذلك على الاوضاع الامنية، مما يزرع القلق في نفوس الجميع ومنهم المسيحيين، عدا ما يعانيه الجميع من شحة الخدمات وفرص العمل، وبالتالي التفكير بالهجرة. بالاضافة الى ذلك فقد تعرض المسيحيون في كركوك ايضا الى الاستهداف من خلال القتل الذي طال منتسبيهم في القوى الامنية والخطف والتهديد والتعدي على الممتلكات الخاصة.
-المسيحيون في اقليم كردستان
وفي دهوك واربيل، بالرغم من الامن المستتب ولجوء النازحين من نينوى وغيرها الى محافظات دهوك واربيل والسليمانية في اقليم كردستان في الاعوام الماضية، الا ان اوضاع المكون المسيحي ( الكلداني السرياني الاشوري ) تعاني من السياسات الإقصائية لحكومة الاقليم والاستئثار بالسلطة والفساد المستشري والتجاوزات على القرى والاراضي العائدة للمسيحيين الكلدان السريان الاشوريين، حيث هناك (٥٨) قرية وموقع تعاني من التجاوزات على اراضيها، والبعض منها محتلة منذ عقود، وحكومة الاقليم لم تعالج اي من الملفات رغم مرور اكثر من عقدين، واستمرار المطالبات برفع التجاوزات واعداد وتقديم الملفات والوثائق التي تسهل عمليات رفعها وإزالتها، وعنكاوا وقرى زاخو ونالا – نهلة شواهد حية على تقاعس حكومة الاقليم وغياب ارادتها في ايجاد الحلول المنصفة، عدا وجود حزب العمال الكردي التركي ( الپكاكا ) في مناطق نيروا وريكان، برواري بالا، زاخو، نهلة، وبالتالي تعرض المناطق الى عمليات عسكرية وملاحقة المسلحين من قبل الطيران التركي، يؤدي الى عدم الاستقرار وخلو القرى في مناطق نيروا وريكان من اهلها بسبب ذلك، وهجرة المئات من العوائل من المناطق الاخرى، وبالتالي زرع الرعب وخيبة الامل لدى السكان الامنين. هذا عدا سياسات التمييز في فرص العمل مع ابناء المكون المسيحي، التي ادت الى افقاره وبالتالي الهجرة المستمرة.
ان غياب الارادة السياسية لدى حكومة الاقليم، والحزبين الحاكمين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في أنصاف المكون المسيحي، أدت الى تراكمات سيئة رسخت حالة عدم ثقة المكون المسيحي بالحكومة وأحزابها الحاكمة، وهي الحالة التي عمقت الشعور بالغبن وكانت المسبب الرئيسي لهجرة المسيحيين الكلدان السريان الاشوريين من الاقليم، نتيجة استمرار هضم حقوقهم في ارضهم ودماء ابناءهم التي اريقت دون وجه حق، سواء عبر الاغتيالات السياسية التي طالت قيادات سياسية او مواطنين عاديين دون ان ياخذ القضاء مجراه الطبيعي، وخير مثال على ذلك الشهيد البرلماني فرنسيس يوسف شابو القيادي في الحركة الديمقراطية الاشورية – زوعا والشهيد لازار ميخو ( ابو نصير ) الشخصيتان السياسيتان، او الراعي احيقار كوركيس او لازار وابنه هفال، والعديد من الحالات المشابهة الاخرى.
-كيف يزدهر الوجود المسيحي في العراق
رغم الأمل المتجدد بعد تحرير مناطق سهل نينوى وعودة المهجرين، لكن تبقى هناك قضايا عالقة لو لم يجد الحل الطريق اليها، فانها ستلقي بظلال قاتمة على وضع المسيحيين في عموم العراق، وفي المقدمة منها وضع سهل نينوى المقسم بين سلطتين ومرجعيتين أمنيتين، الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، ولاستقرار وضع المسيحيين وايجاد الحافز الأساسي لهم للبقاء ومواجهة الصعوبات وتحمل الظروف الصعبة، لا بد من توحيد المنطقة وتسليم ملفيها الاداري والامني لابنائها، والعمل لإيجاد الغطاء القانوني للمنطقة لحمايتها من اي تغيير ديموغرافي آني او مستقبلي، وذلك وحسب اعتقادنا هو استحداث محافظة في مناطق من سهل نينوى، تضم الأقليات الموجودة هناك، تمكنهم من إدارة أنفسهم بصورة رسمية، في ظل الدولة الاتحادية التي ستخصص لهذه المحافظة ميزانية سنوية أسوة بالمحافظات العراقية الاخرى، وهناك ارضية مهيئة لذلك تتمثل بالقرار السياسي الصادر عن مجلس الوزراء العراقي في ٢١ كانون الثاني ٢٠١٤، وبالتالي يستم بذلك ابعاد هذه المناطق عن الصراع من اجل الاستحواذ عليها من قبل القوى الكردية والعربية، وكذلك سيتم تمكينها من النمو والتطور الطبيعي بالتساوي مع بقية المحافظات الاخرى. اما في عموم العراق، فان استقرار وضع المسيحيين يحتاج في المقام الاول الى تقوية سلطة الدولة، وبسط هيمنتها وتطبيق القانون في ظل نظام ديمقراطي يقر ويطبق حقوق الجميع بالتساوي، دون الأخذ بالاعتبار اي شيء سوى المواطنة التي يجب ان تكون المقياس الوحيد لتعامل الدولة مع مواطنيها.
يضاف الى ذلك تشريع قوانين خاصة بالأقليات على اساس مفهوم الانحياز الايجابي المطبق في العديد من الدول التي مرت أقلياتها بما مر به المسيحيين في العراق، وفي مقدمة هذه القوانين، ضمان التمثيل السياسي العادل والحقيقي والذي يعبر عن الارادة الحرة لهذه الأقليات، ويمنع القوى السياسية الكبيرة من الاستحواذ على تمثيلها لغايات سياسية ومصلحية ضيقة، كما حصل في الانتخابات الاخيرة لمجلس النواب العراقي التي جرت في ١٢ ايار ٢٠١٨، وكذلك في انتخابات برلمان اقليم كردستان التي جرت في ٣٠ ايلول ٢٠١٨، حيث شهدت عملية الانتخابات لكلا البرلمانين ضخ عشرات الآلاف من الاصوات الموجهة سياسيا من خارج المكون لدعم شخصيات تابعة تدور في فلك القوى المستأثرة بالسلطة.
وكذلك تشريع قوانين التوظيف ومنع التغيير الديموغرافي واخرى تشدد في ملاحقة المستحوذين على املاك المسيحيين وابطال اي عمليات بيع او شراء تمت في ظل ظروف غير طبيعية كما حصل اثناء فترة احتلال تنظيم داعش الارهابي. يضاف الى ذلك قيام الحكومة باجراءات ادارية وتربوية وثقافية تدعو الى التعايش السلمي وتقبل الاخر، وتُعرف به وبثقافته وديانته، وإسهاماته العظيمة في بناء وتطوير الوطن وتضحياته الكبيرة في الدفاع والذود عنه ووجوب احترامه كونه مواطن يتساوى مع البقية في الحقوق والواجبات. يقابل ذلك إنزال اشد العقوبات بكل من يسيء او يحرض او يقوم باي من الاعمال التي تستهدف الأقليات وتعرضهم للخطر، وعدم التساهل مع الخروقات التي تتم بحقهم. هذه الخطوات حتما ستساهم الى حد كبيرة في بث الطمأنينة في نفوس المسيحيين، وتعيد اليهم ثقتهم بدولتهم التي فقدوها جراء ما تعرضوا له خلال الخمسة عشر سنة الماضية من ارهاب ممنهج. واكثر من ذلك في الاقليم من اغتيالات سياسية وغير سياسية وتجاوزات على القرى والأراضي والاقصاء السياسي الممنهج ومصادرة الإرادة.