تقرير : نازك محمد
شربنا عصير الرمان الطازج، قبالة نهر دجلة – وهو يتلألأ وسط أجمل شارع في العالم واقع في محافظة ميسان أقصى جنوب العراق، وقطرات الأمطار بللت البشت النسائي بلون البنفسج الذي كنت أرتديه في زيارتي الأولى لمسقط رأس أبي – خصيصا ً للتمتع بالمدن الفينيسية العائمة فوق الجمال.
كانت المرة الأخيرة التي تنطبع في ذاكرتي وعلى يدي وبشرتي، سحر جميلات العراق، الجاذبات لأندر الكائنات منها الطيور الزهرية التي علمت البشر الرقص والموسيقى، وهي الفلامينكو الشهيرة، في مارس/آذار العام الماضي – عند أوج الإقبال السياحي على ميسان، للتمتع بإهوارها الأخاذة ذات المياه الصافية تماماً.
الفتاتان الصغيرتان اللتان لوحتا لنا فرحا ً بالسواح القادمين من مختلف أنحاء العالم والعالم أيضا ً على شكل دفعات بالعشرات والمئات على مدى العامين الماضيين، والمرأة ذات الرداء الريفي الأنيق التي وقفت ويدها تحد خصرها حسبما نقول بهلجتنا “متخصرة، أو متخوصرة”، مصيرهن مع كل سائق شخورة “زورق خاص”، والسكان هناك، في خطر إثر كارثة حلت بهم.
جفت تلك الجميلات “الأهوار” وهي مستنقعات ومسطحات مائية من بينها من أدرجت على لائحة التراث العالمي ومحميات اليونسكو، بعد جهود وتحركات استمرت لسنوات، مع موت نهر دجلة في ميسان التي طالما حذر فيها الناشطون والمختصون في البيئة من الجفاف وإيجاد الحلول قبل فوات الأوان..لكن الأوان ذهب وتحولت الأنهر والأهوار إلى شوارع لمرح الأطفال وكراتهم للقدم.
في حديث خاص لـ”سبوتنيك”، كشف الناشط البيئي في محافظة ميسان، أحمد صالح نعمة، عن تفاصيل الجفاف وموت نهر دجلة في المحافظة، والأضرار الناجمة وخطرها الذي يهدد الإنسان والكائنات.
ويقول نعمة :
“بما أن السنة هذه، سنة جفاف طبيعة، مررنا بنفسها في عامي 1997، و2008، لم يكن هناك مطر في تركيا وإيران وشمال العراق، وكون بلادنا دولة مصب وليس منبع لذلك هي الأضعف في الموضوع، وبما أن الجنوب العراقي أيضا ً مصب من محافظات أخرى، منها واسط، وبغداد “العاصمة”، وشمال، فهو يكون المتضرر الأكثر وتسمى بجنائب الأنهار أي نهاياتها”.
وبين نعمة، أن جنائب الأنهار، دوما هي التي تتعرض للجفاف – نهاية شرايين نهر دجلة، وفي محافظة ميسان 5 أنهار تتضرر عادة نهاياتها وفي هذه السنة بالذات كونها سنة غير مطرية ودافئة، غير بادرة تسبب بنمو نباتات الطحالب، والشمبلان، والشرع داخل حوض نهر دجلة.
وكان من المؤمل أن تنمو هذه النباتات والطحالب في حوض دجلة، في شهر مارس/آذار المقبل مثل كل عام حيث تصادف الأمطار وذوبان الثلوج، فيكون النهر جاريا بشكل كبير ولا تعيقه النباتات والطحالب حيث يقتلعها جريان المياه، مثلم أوضح نعمة، متداركا ً “لكن هذه السنة صادفت قلة المياه مع دفئ، قبل حلول شهر فبراير/شباط الجاري، بدأت النباتات المذكورة بالنمو مما تسبب بإعاقة سير المياه بشكل كبير”
وأكمل نعمة، الأمر الثاني هو موضوع “نظام المراشنة” وهو توزيع حصص الماء بين الفلاحين من قبل الدولة، يعني إعطاء 5 أيام لفلاحي شمال العمارة “مركز المحافظة”، و5 أيام لجنوب المركز، لعدم وجود المياه، وهذا تسبب بزيادة قساوة الشحة على مناطق المجر الكبير ثم ناحيتي العدل، والخير.
الأهوار
وعن الضرر الذي طال الأهوار في ميسان – والتي منها اكتسب المحافظة تشبيها ً بمدينة فينيسيا الإيطالية العائمة فوق المياه، بكل حزن أخبرنا نعمة، أن مستوى الماء في داخل هور الحويزة المدرج على لائحة التراث العالمي منذ عام 2016، بلغ 35 سم فقط، بينما كان يصل مستواه إلى مترين وأكثر.
وتابع نعمة، أما الأهوار الأوسطى في داخل محافظة ميسان، والتي هي : هور العودة، والصحين، والبطاط، والصيدة، فهي جافة منذ سبعة أشهر، وحالياً ليست أراضي رطبة بل جافة تماماً باستطاعتنا السير فيها بالسيارة.
نزوح ديموغرافي
ووصف نعمة الحال والأمر بالمقلق جداً، والمخيف جداً، وبالإمكان أن نتحدث عن نزوح الحيوانات المفترسة والشرسة، والأفاعي والحشرات من تلك المناطق إلى مناطق المدن بحثا عن الماء، ونزوحها هذا بالتالي خطر كبير على المدنيين.
وتحدث نعمة عن تغيير ديموغرافي محتمل في مناطق الأهوار والأرياف التي أصابها الجفاف، بانتقالها أبنائها وساكنيها إلى المدن في الصيف القادم.
تحرك الحكومة
وبشأن التحركات الحكومية، لحل أزمة الجفاف، وإيجاد الحلول، أعلن نعمة، أن الحكومة المحلية استقبلت وفدا ً من الحكومة الاتحادية، ونواب البرلمان يوم أمس الثلاثاء، 13 فبراير/شباط، لدراسة موضوع سدة الكوت “مركز محافظة وسط” وسط البلاد.
ونقل لنا نعمة معلومة هامة من اللقاء المباحثات التي جرت، والتي استفهمت بها الحكومة المحلية للوصول إلى الحل، بما يلي :
لماذا لا تقسم المياه من سدة الكوت، بين واسط، والناصرية، والعمارة، والبصرة بشكل عادل.
وألمح نعمة، إلى أن الوفد حاليا ً في ميسان، للوقوف على واقع المياه ثم التفاوض وإجبار سدة الكوت على فتح كميات المياه، وهذا ما يفيد للجميع.
الحلول
بما أن الأزمة تضرب البلاد كاملة، بل تضرب البلدان المجاورة كاملة، فهناك مفهوم يسمى “تقاسم الضرر” يعني أن وجد الماء والمطر تقاسمنا المنفعة، وأن لم يجد نتقاسم الضرر .. نتقاسمه كي لا يكون على محافظة دون أخرى، على حد توضيح نعمة.
وتابع، حالياً تقسيم الضرر وتخفيفه على الجنوب، تعرفين مثلا ً أن الخطة الاروائية الخاصة بمحافظة واسط تحققت بنسبة 120 %، يعني أنهم فاقوا الخطة بنسبة 20% وهذا كان مؤمل أن يفشل بنسبة 60 %، فـ من أين أتوا بالمياه الزائدة لتصبح عندهم هذه النسبة؟
وأجاب الناشط البيئي البارز في ميسان، نعم هطلت أمطار على قضاء بدرة في الكوت، وتمكنوا من خزن مليون متر مكعب من الماء، يكفي لما يقارب 5 آلاف دونم، أما في مدينة العمارة، فالأمطار التي هطلت يوم أمس الثلاثاء، خفيفة جداً ولم نستطع خزن أي شيء منها، لأنها لم تكن اروائية بل ترطيبية فقط.
وأطلق أبناء محافظة ميسان، ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، حملات لإنقاذ الأهوار في مدينتهم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” وتويتر”، وبثوا من خلالها صور تظهر الجفاف الذي أكل من جسد نهر دجلة لدرجة أن الأطفال نزلوا إلى منتصف جاف تماماً من النهر، للعب الكرة والمرح بالتراب.
وأسمى الناشطون الميسانيون الذين حظوا بدعم من أبناء باقي المحافظات، حملاتهم بهاشتاكات هي: “#العمارة_عطشانة”، و#دجلة_تستغيث”، مع مطالب إلى الحكومة والجهات المعنية للتدخل وإيجاد حل لهذه الكارثة التي تهدد حياة المدينة بأكملها.
واستطاع العراق، أن يدخل بأهوار من ميسان، على لائحة التراث العالمي، بعد أن كانت تواجه الجفاف والهلاك لسنوات طويلة لوحدها دون منقذ أو منجد تموت معها نباتات القصب والبردي التي استخدمها السومريين للكاتبة المسمارية العائدة إلى 3000 سنة قبل الميلاد.
الصور قبل الجفاف
الصور الجديدة بعد الجفاف