1. Home
  2. /
  3. اراء
  4. /
  5. مقالات
  6. /
  7. الجزء 29، استشهاد البطريرك...

الجزء 29، استشهاد البطريرك مار شمعون بنيامين على يد المجرم سمكو الشكاكي

يعكوب أبونا

يحدثنا المطران إيليا أبونا في ص 154 من كتابه تاريخ بطاركة البيت الابوي، الذي عاش الاحداث شخصيا، لذلك نعتمد شهادته بما يخص هذا المواضيع. ففي فصل يسميه “خراب الأمة وتشتتها بين مدن اذربيجان ومقتل مار شمعون بنيامين الشهيد المظفر”، يقول: (في 14 تموز 1914 نشب حرب طاحنة بين ممالك الأرض، وهزت العالم، وامتدت المعركة وسوح الحرب من مشرق الارض حتى مغربها، ومن شمالها حتى جنوبها، وتحالفت انكلترا وفرنسا وروسيا وايطاليا وامريكا ورومانيا وصربيا.. في جبهة واحدة، وتحالفت بالمقابل المانيا وسويسرا وتركيا وبلغاريا، واشتعلت الحرب الضروس بين الجبهتين، واستخدمت الطائرات الحربية، وعلى الارض استخدمت المدافع الجبارة سعة “72” أي أن قطر فوهة المدفع كانت 72 ملم، كما اشتبكت السفن الحربية الكبيرة، وتحت الماء في البحار كانوا يحاربون بواسطة الغواصات.

تغير وجه العالم بسبب هذه الحروب، ودمرت مدن لا تعد ولا تحصى، وأزيلت آلاف القرى من الوجود ومسحت أسماؤها، وهدمت قصوروصروح كبيرة، ودكت حصون وقلاع وغدت تلالا من رماد بفعل نيران المدافع الجبارة، وكم من كنائس وأديرة عامرة غدت خرابا وأرضا يبابا.

دامت الحرب أربع سنوات دون توقف ليلا ونهارا ولم يشبع أتون الحرب من ابتلاع البشر، رجال ونساء واطفال وبنات وعذارى وشيوخ وملوك وامراء.

كل هذه الأهوال وهذه الأحداث المريعة الفضيعة التي ابتليت بها الأرض عانت منها أمتنا الآشورية بشكل مضاعف).. انتهى الاقتباس.

إذ قدمت امتنا من الضحايا والشهداء في هذه الحرب ما يقدربين 250 إلى 500 ألف شخص، ويضاف حوالي مليوني أرمني ويوناني قتلوا في مذابح مماثلة معروفة بمذابح الأرمن ومذابح اليونانيين.

أطلقت على هذه المجازر تسميات محلية أهمها مجازرالسيفو ـ ܣܝܼܦܐ”، وهي لفظة سريانية غربية تعني “السيف” في إشارة إلى طريقة اغتيال معظم الضحايا.

بدأت هذه المجازر سنة 1915 في منطقة طورعابدين فأطلق عليها بـ ” شاتو دسيفو ـ ܫܢ݇ܬܐ ܕܣܝܼܦܐ” أي “عام السيف”. وسميت بالأدبيات السريانية بـ “ܩܸܛܠܵܐ ܕܥܲܡܐ ܣܘܼܪܵܝܐ ـ قِطلا دعَمّا سُرايا” واختصارا “ܩܛܵܠܥܲܡܐ ـ قطَلعَمّا” لتعني “التطهير العرقي” للاقليات المسيحية بكل انتمآتها المذهبية والطائفية .

أدت محاولات تتريك الشعوب القاطنة ضمن الدولة العثمانية إلى ردود فعل معارضة وانتشارالفكر القومي المعارض لهذه السياسة كالعربي والأرمني والآشوري، مما أدى إلى أستعمال العثمانيين للعنف في محاولة لدمج تلك الشعوب في بوتقة التتريك، بدأت أولى عمليات الإبادة على نطاق واسع سنة 1895 أثناء ما سمي بالمجازر الحميدية عندما اتهم الأرمن بمحاولة اغتيال السلطان عبد الحميد الثاني، فتم قتل وبصورة بشعة مئات الآلاف من الأرمن والآشوريين خاصة في مدن أضنة وآمد، وتلتها بعد فشل الترك في حملة القوقاز الأولى في شتاء 1914، وخشية انضمام الأرمن إلى الروس، فقامت بارتكاب المجازر بحق الأرمن والآشوريين/ السريان/ الكلدان، كان غالبية أبناء شعبنا تواجدهم في مراكز الموصل وحلب وآمد، إلا ان معظمهم عاش في منطقة تمتد من أورميا شرقا إلى ماردين غربا. كانت يتعايش في المنطقة الى جانب أبناء شعبنا الأكراد والأرمن.

كان مار شمعون بنيامين، من بداية الحرب العالمية الأولى قد توصل إلى اتفاق مع السلطات التركية، وتلقى وعودا منها، بفتح مدارس وتطوير مناطق الآشوريين في حكاري في حالة موافقته على الوقوف حيادا في أي حرب مستقبلية ضد روسيا. وفعلا لم ينضم الآشوريون إلى الروس، ولا الى الثوار الأرمن خلال بدء العمليات العسكرية خريف 1914، بل ان البطريرك مار شمعون أرسل رسائل إلى رعاياه طلب فيها منهم الولاء لحكامهم المحليين العثمانيين وعدم مجابهة الميليشيات التابعة لها.

ولكن بفشل الهجوم الأول للعثمانيين في جبهة القوقاز باتجاه “باطومي”، قرر هؤلاء تغيير الواقع الديموغرافي في المرتفعات الأرمنية وذلك بإبادة وترحيل سكانها الأرمن. فعمليات التصفية لم تضم الأرمن فحسب ففي 12 تشرين الثاني 1914 أعلن السلطان محمد الخامس الجهاد على “أعداء الإسلام”، وصادق شيخ الإسلام العثماني على هذه الدعوة بإعلان فتوى الجهاد في 14 تشرين الثاني. ففي يوم رأس السنة 1915 تمكنوا من اختراق الدفاعات الروسية في إيران دون مقاومة، فسيطروا على تبريز وأورميا، إلا ان الروس في ربيع نفس السنة تقدموا باتجاه ” وان “، وحاولوا استمالة مار شمعون بنيامين مجددًا، ولكن انسحبوا بعد فترة، فكانت لقوات كردية غير نظامية هجمات على آشوريي حكاري مدمرين معظم قراهم، فاضطر هؤلاء للجوء لقمم الجبال ومن ثم الفرار نحو أورميا بقيادة البطريرك وكان ذلك بأواخر سنة 1915. وأثناء تواجدهم في أورميا فاقمت المجاعة والأمراض أوضاع الآشوريين في أورميا فنشطت بينهم مؤسسات رعاية أمريكية.

ويضيف المطران إيليا أبونا: ( في سنة 1916 أقبلت قبائل كردية وانضمت الى القوات التركية، وهم مزودون بكل اصناف اسلحة الإبادة البشرية، وتقدموا والتفوا حول أبناء هذه الأمة وحاصروها من كل جانب، وسدت كل المنافذ والطرق، فتعذر الخروج أو الدخول من خلالها. وما كان من قداسة البطريرك حين رأى أن قدر الأمة قد اقترب وغدا على مرمى البصر، خرج مع مجموعة صغيرة من ابنائه والتحقوا بعشيرة “ديزين”).

يذكر ماتفييف ومار يوحنا.. تاريخ الآثوريين، ج 1 ص 30 . بأن (“دزين” من الممالك المستقلة. فقد كانت مملكة “دزين في القسم الشرقي من “حكاري” في وادي نهر ديز، وكان مار شمعون يديرها شكليا، أما في الواقع فقد كانت تدار من قبل الملّك هرمز، فقد لعب آثوريو ديز دورا مهما في مساعدة الأكراد من سلالة العباسيين في القضاء على سلطة الإيرانيين في القرن الخامس عشر).. انتهى الاقتباس.

ومن هناك راح يكتب مار شمعون الى مقاتلي الأمة كي يلموا شملهم ويحاربوا العدو بقوة الجبابرة دون خوف او جزع. واما الأكراد راحوا يفتحون النار على قواتنا من جميع الجهات بكثافة، وضاقت بنا الدنيا وأخذ عتاد المقاتيلن ينفد، فألحوا على قداسة البطريرك واجبروه على مغادرة المكان والذهاب الى “خوسراوا” عبر تلك الجبال العصية، حيث معسكر القوات الروسية لعلهم يساندون اخوتهم المسيحيين بالمقاتلين او بالسلاح، إذ أن الكثير من شبابنا لم يعد يحمل السلاح للقتال ضد العدو، إلا أن الروس لم ينجدونا بالرجال المقاتلين، وانما اقتصرت مساعدتهم على بعض البنادق القديمة، وعاد البطريرك ومرافقوه بعجل لمحاربة الاعداء ولكن دون جدوى، لأن قوة العدو كانت تزداد.

هنا يذكر يوسف مالك في ص 64 من كتابه الخيانة البريطانية للآشوريين ” أن المساعدة الروسية رغم ضآلتها، فإنها تدعو الى الاعجاب حين ترى هؤلاء الآشوريين، الذين خاضوا خمسة عشر معركة رئيسية على الأرض التركية، ضد جيوش نظامية وغير نظامية، تفوقهم عددا وعدة بما لا يمكن مقارنتها، بخسائر طفيفة جدا في الارواح، تشهد مرة أخرى، استحقاقهم عن جدارة اسم اجدادهم ” الآشوريين العظماء “.. انتهى الاقتباس

وفي تلك الأثناء تمرض الشقيق الصغير للبطريرك في دير مار عبد يشوع في “طال” واشتد عليه المرض، وبعد أيام توفي. فبكاه الجميع بمرارة لشبابه ولخصاله الحميدة، ودفنوه داخل دير مار عبديشوع بأسى وحزن كبيرين.

” طال” قرية اثورية على احد روافد الجهة اليسرى للزاب الاعلى في منطقة حكاري، ومن الروافد الاخرى للزاب تلك التي تقع عليها ديز ووالطو ورمتا. “ماتفييف ومار يوحنا، تاريخ الآثوريين ص 28 -29 ” .

ويذكر المطران إيليا أبونا ، وقد أشار الله الى قداسة البطريرك أن يأمر شعبه بالهرب من أمام وجه العدو لئلا يفنى كله بأيدي الأعداء الظالمين فقد غدا موقفهم صعبا جدا، لذلك ففي الغد المبكر ومع شروق الشمس، كلم البطريرك وجوه قومه كي يطلبوا من المقاتلين ان يركزوا قتالهم على الجبهه الشرقية، وان يهاجموا اعدائهم كالأسود لعل الله الممجد اسمه يفتح لهم باب الرحمة والنجاة، وحالما تلقى المقاتلون الامر نهضوا كالجبابرة وباغتوا معسكر الاعداء، وكالنسور التي تهوى فوق أعشاشها هكذا هاجموا صفوف قوات العدو، وقتلوا منهم جموعاً كثيرة بالحراب، ومنح الله النصر للشباب الآثوريين، فارتعد العدو لجرأتهم وشجاعتهم وولى هاربا، وتشتت شمله هنا وهناك وهكذا تمكن الآثوريون من فتح ثغرة واسعة في صفوف العدو من الجبهة الشرقية للقتال، وراحت جموع الشعب المسيحي تعبر من خلال الثغرة المفتوحة، حتى نجى الشعب وعبر صوب تخوم اذربيجان الفارسية، وكانت الأمة النازحة تقترب تدريجيا في مسيرتها من الحدود الإيرانية، وكان الشباب يقاتلون بضراوة فتمكنوا من العبور ودخول الحدود الفارسية، وبذلك نجوا بأنفسهم، فانتشروا متوزعين هناك بين المدن مثل “أورميا” و “سلامس ” و “خوي”.

“خوي” واقعة على نهر أموداريا الأسفل في تركستان الروسية، ورى البيروني بأن العرب غزوها سنة 712 م، وكان فيها نصارى من الملكيين. ” المنجد في الأدب والعلوم 181 – 183 “.

ويضيف المطران إيليا: (ولقد بادر قناصلة وممثلو الدول المتحالفة الى تعيين من يتولى امر هذا الشعب من رؤساء وكتبة من بين الآثوريين انفسهم، ومنحوا الناس مساعدات مالية ليتمكنوا من تسيير أمورهم المعاشية. وعمدت المملكة الروسية وحلفاؤها الى توزيع الملابس للرجال والنساء والأطفال، واسكنوهم في قرى المسلمين، فاستقروا وطابت نفوس هؤلاء الآثوريين المساكين بعد ان نجوا من القتل والسبي والنهب والسلب وغير ذلك من الاضطهادات والأهوال. وبعد ان استقرت الأمة فى أمان وسلام التقى مار شمعون بنيامين بنائب الملك رئيس القوات الروسية، ففرح بلقائه وأجله واحترمه كثيرا، واشار اليه بأن يقصد “تفليس” وهناك قوبل بإجلال واحترام، ولاقى تعظيما يليق بمقام الملوك، وحل ضيفا على نفقة المملكة في حد القصور الملكية الموجودة في مدينة ” تفليس”. وبعد ان استراح البطريرك من عناء الطريق، أخذ لمقابلة عم الملك، وحين دخل قصره تلقاه بأحضانه وقبلة ثلاثا واستفسر منه عن شعبه وعن كنيسته، فأخبره البطريرك بكل المصاعب والمصائب والاضطهادات التي عانت منها الأمة على ايدي اعداء المسيحية. وتقبلت كل من زوجة عم الملك واخته بركة البطريرك، وقدمتا له هدايا وعطايا كثيرة. وأهدى له عم الملك صورة شخصية له رسمت بشكل جميل، وكتب في أسفلها بخط يده “ذكرى محبتنا الخالصة لقداسة أبينا البار مار شمعون بطريرك الكنيسة القديمة الآثورية).

وذكر ك. ل. ماتفييف ومار يوحنا، تاريخ الآثوريين ج 1 ص59: ” في هذا اللقاء نوقشت العلاقات الروسية الآثورية، وتعهدت القيادة الروسية للعمل على ايجاد دولة للآثوريين، وذلك مقابل خدماتهم لها. كما تعهد الروس بعدم سحب قواتهم من اذربيجان الإيرانية، وتشكيل جيش آثوري يتعاون مع الجيش الروسي. وكان من أعضاء الوفد المرافق لمار شمعون بنيامين المطران إيليا أبونا صاحب المؤلف هذا”.

وجلالة الملك نيقولا ملك روسيا بعد سماعة بوصول البطريرك لدى عمه في “تفليس” أبرق الى قداسة البطريرك يقول: سمعت بأن تراب مملكتنا قد تبارك بآثار قدميك المقدستين، بارك بيتنا وقواتنا بارك روسيا كلها” ومن ثم ودع قداسة البطريرك بمثل ما استقبل به من اجلال وتعظيم بل وأفضل .

وأما في كتاب آغا بطرس يذكر ص 89 الطبعة الثانية بأنه في ختام زيارته لتفليس قفل راجعا الى “سلامس” واستقبل بحفاوة بالغة من قبل قائد القوات الروسية وتمخضت زيارة ما شمعون الى تفليس عن حدثين مهمين:

  1. التقارب الأخوي بين الآشوريين والروس.
  2. توحيد الصفوف الآشورية تحت قيادة البطريرك “مار شمعون بنيامين”.

وفي 11 من شباط 1916 قام البطريرك مار شمعون بزيارة الى مدينة أورميا، وقد خرج لاستقباله حشد كبير من الناس الذين قدموا من قرى نهر الباراندوز، ومن قري أورميا وغيرها، رافقه في تلك الزيارة ” 500 ” فارس من الآشوريين وطافوا به في المدينة وسط اهازيج ودوي الاطلاقات النارية، وفي 19 شباط 1916 وكان اليوم جمعة نظم المجلس القومي الآشوري في أورميا اجتماعا كبيرا على شرف البطريرك، وحضره كبار قادة الروس ورؤساء العشائر الآشورية وكانت هنالك جماهير محتشدة تتغنى باسم البطريرك والقيصر الروسي “نيقولاي” الذي تلت رسالته في ذلك الاجتماع موجهة الى احد المسؤولين الروس في أورميا ومضمونها :

ارجو من معاليكم ان تبلغوا البطريرك “ماربنيامين” عمق احساسي بصلواته وأومن بأن الله سيمكننا من انقاذ المسيحيين من ظلم وجور الترك، واني لممتن جدا من قداسته على حسن ظنه بنا وقبوله العمل معنا. انتهى الاقتباس.

ويضيف مار إيليا وعندما أرادت القوات التركية الدخول الى ايران ومن ثم الانحدار من هناك الى بابل وبغداد لمواجهة قوات الحلفاء والانكليز هناك، فارتأى الحلفاء أن يسلحوا الشبان الآثوريين للقيام ضد الاتراك وصدهم ومنعهم من الدخول الى ايران فجندوهم وقسموهم الى افواج منظمة تحت امرة قواد منهم، فكان هناك قادة الالف وقادة المئة وقادة الخمسين الى آخره، وزودوهم بكل انواع اسلحة القتال، ودربوهم للحرب ضد العدو كقوات طوارئ .

في اكتوبر 1917 قامت الثورة الاشتراكية في روسيا، وعقد الروس هدنة مع المانيا وحلفائها وسحبت جيوشها من ايران، وأيل الملك عن عرشه، والقت القوات الروسية اسلحتها وجميع تجهيزاتها، وغادرت القوات الروسية اذربيجان بعد ان قامت بأعمال التخريب والنهب والسلب، وظل الآثوريون الذين هجروا مواطنهم في اذربيجان لوحدهم دون سند، يحيط بهم الفرس والأكراد والاتراك الموجودون في بلاد فارس.

يذكر ماتفييف ” بار متى ” في ص 103 من كتابه: ” وفي اثناء ذلك اتخذت الحكومة الإيرانية خطوة ثانية ضد الآشوريين حيث طلبت في شباط عام 1918 ومن خلال محافظ اورمي جلال الملك تسليم كل ما يمتلكون من السلاح ومغادرة الأراضي الإيرانية “. انتهى الاقتباس.

ويذكر المطران إيليا: وهذا ما اتاح الفرصة لهؤلاء الأشرار جميعا للانتقام من المسيحيين المساكين. فحين رأى كارهو الحق أن قوات الحلفاء “الروس” قد غادروا عائدين الى بلادهم اجتمعوا لدى رؤسائهم وحاكوا مؤامرة قذرة ضد المسيحيين، وتحالفوا مع بعضهم وأقسموا غليظ الايمان بأن يظلوا متحدين حتى الموت. وراحوا يمارسون الظلم والاضطهاد ضد المسيحيين هنا وهناك وبشكل تدريجي في أول الأمر ومن ثم اشتد ظلمهم واضطهاداتهم ومضايقاتهم وبدأ السلب والنهب والاعتداء السافر على الآثوريين أبناء الجبال الذين لم يعتادوا على تحمل مثل هذه الاعتداءات ضدهم، مما اضطرهم ودفعهم للمقاومة والدفاع عن انفسهم وعن كل ما يخصهم بكل قوتهم. وكانت نتائج كل ذلك خراب ” أورميا وسلامس ” وغيرها.

ولم يكن للأكراد والايرانيين قوة لمواجهة الآثوريين، ولذلك اجتمعوا لدى ” سمكو ” رئيس عشيرة “شكاك” الكردية”.. المصدر: فصول من تاريخ العراق القريب، مس بيل، ترجمة جعفر خياط 183، “هو اسماعيل آغا الملقب سمكو رئيس قبيلة الشكاك النازلة بين “وان وأورميا”.

فرسموا خطة شريرة دنيئة غادرة لاغتيال مار شمعون البطريرك، مستغلين العلاقة الجيدة والصداقة القديمة التي كانت بين البطريرك والأكراد قبل هجرة الآثوريين وتركهم لمواطنهم في عهد المملكة التركية. واستغل سمكو الشرير بعضا من رجالنا، وطلب منهم بإلحاح بأن يخبروا البطريرك أن يتنازل ويقبله كواحد من عبيده، وأن يكون مع جميع أبناء عشيرتة تابعين له، وأن يتحالف ويتحد معه ضد القوات الإيرانية والتركية.

وطلب عقد اجتماع بينه وبين البطريرك في مكان بعيد ليتدارسوا الأمر لمنفعة كلتا الأمتين وأكد على ان يكون اللقاء سريا وبعيدا معزولا، لا في بيت البطريرك ولا في حصنه هو، لتحاشي تجمع أناس كثيرين، فينتشر القال والقيل مما يسبب اضطراب وسجالاً بين الناس وتفشل الخطة، وتم اختيار مدينة “كوناشهر” الواقعة بين خوراوا التي فيها البيت البطريركي الآثوري وحصن سمكو، وهي الى “خوسراوا” اقرب.

يذكر ماتفييف في ص 103 من كتابه المشار اليه أعلاه، ” لقد كان البطريرك الآشوري وكذلك زعيم الأرمن خانبار تسينيان ضد التقرب والتحالف مع سمكو بتاتا ولكنهما تحت ضغط الانكليز اصبحا مجبرين على التخلي عن ذلك، كان الآشوريين في ظروف الحصار من قبل السكان المعادين لهم ومهددين بهجوم القوات التركية، عمل البطريرك والقادة الآشوريين ما بوسعهم من اجل اقناع الطبقات الحاكمة في ايران بالنوايا الحسنة للآشوريين بما في ذلك أنه ليس لهم تطلعات لتأسيس الدولة الآشورية على الاراضي الإيرانية، وفي 28 شباط 1918 تطور الوضع الى انتفاضة للمسلمين ضد الآشوريين فحملوا الرايات واللافتات والشعارات الداعية لإبادة الآشوريين، وهكذا بدأت بين الآشوريين والمسلمين المحليين في اورمي المعارك التي استخدمت فيها البنادق والرشاشات والقنابل.

وكان في اورمي مجموعة اشورية بقيادة الأمير كوزمين، وفي تعداد هذه المجموعة كان آغا بطرس وملك خوشابا وبعض الضباط الروس، وبإيعاز من البطريرك وزعت الاسلحة وتم دحر المهاجمين ولاحقوهم الآشوريون خطوة خطوة حتى اخترقوا الأحياء الإسلامية في اورمي، وأمر البطريرك وآغا بطرس وقادة الروس بإيقاف التدمير والقرصنة حالا، وتمت إعادة النظام الى المدينة، وارسل البطريرك كتابا الى سالماس وأماكن اخرى من المحافظة يأمر فيها بإيقاف المذابح واحلال السلام مع المسلمين، كما نظم في أورمي كونفراس التقى فيه البطريرك مع الزعماء المسلمين كما نظم لقاء آخر في سالماس”.

ويضيف ماتفييف: “وعندما علم محافظ تبريز مهدي الشمس بهزيمة المسلمين بعث مباشرة برسالة الى سمكو حيث جاء فيها أنه إذا قتل البطريرك مار شمعون سيحظى برضى الحكومة الفارسية، ونظرا لتوخي استحقاق الرضى والحصول على الذهب مقابل رأس البطريرك بدأ سمكو المراسلة مؤكدا على اللقاء معه لبحث بعض المسائل المتعلقة، لقد بدا الطلب طبيعيا جدا، إذ أنه من الوهلة التي تم اللقاء مع الكابتن غريسي الانكليزي أصبح سمكو حليفا للآشوريين، رغم أنه في الحقيقة أن أحد السكان الأرمن في “كونا شهر” أرسل ابنه الى البطريرك يخبره فيها عن نوايا سمكو في قتل بنيامين مار شمعون، لم يسترع هذا التحذير انتباه احد منهم. وفي 16 اذار 1918 توجه البطريرك برفقة حرس من وحدة الخيالة للقاء مع سمكو”. انتهى الاقتباس.

ويضيف المطران إيليا بأن البطريرك وبسبب نقاء سريرته وصفاء نيته ارتاح لفكرة “تسوية خلافاتهم” وحدد لسمكو موعدا قائلا له: أقدم الى “كونا شهر” وسوف أوافيك بدوري هناك لندرس القضية معا.

وفي اليوم المحدد وكان السبت الاول من الصوم الكبير سنة 1918، ” صادف يوم 3 اذار سنة 1918 المذكورة” وكان سمكو قد هيأ مقاتليه بخطته الشريرة، كما اخبر الأكراد من أهل مدينة “كوناشهر” كي يكونوا هم ايضا مهيئين ومستعدين لإبداء المساعدة اللازمة اثناء نشوب القتال ضد المسيحيين، وجلب سمكو معه خمسمائة فارس من المقاتلين الأشداء، فتمركزوا داخل فناء البيت وعلى سطحه وفوق سطوح البيوت المجاورة.

وكان سيدنا البطريرك بدوره قد جلب معه مائة وخمسين فارسا من الرجال الأبطال. ولكن ما جدوى ذلك؟ لأن بعكس سمكو.. البطريرك أوصى رجاله أن يتحلوا بالطيبة وأن يكونوا هادئين مسالمين، وأن يتصفوا بوداعة الحملان الأليفة حتى خروجهم من المدينة، وأن لا يأتوا أي عمل غير لائق، وأن لا يسببوا أي ضرر لأي انسان.

وإذ اقترب البطريرك من البيت الذي نزل فيه سمكو، تقدم هذا الرجل الخبيث نحو عربة البطريرك وفتح بابها وتناول يمين البطريرك وقبلها ووضعها على راسه، وأعان البطريرك على النزول من العربة. ثم تقدم رجاله للسلام على البطريرك. وسار سمكو الى جانب البطريرك ويده على صدره معبرا عن احترامه وخضوعه له، ودخلا المنزل مع بعض الوجوه مثل كبير المقاتلين داويذ شقيق البطريرك وآخرون. وطعموا وشربوا سوية، وتحدثوا وتبادلوا الآراء. وأظهر سمكو حبه وتواضعه للبطريرك، وأنه لا يستحق أن يكون عبدا بين يديه المقدستين، وادعى بأنه سيبقى الحليف والصديق الصدوق للمسيحيين هو ومن معة من أبناء عشيرته كلهم .” انتهى الاقتباس”.

ويذكر ق . ب . ماتفييف بارمتي، ص 105 وما بعدها:

“وبعد المباحثات خرج من مكان الاجتماع كل من البطريرك واخيه داويذ وضباط روس ومعهم جميعا سمكو، وعندما جلس البطريرك في مركبته اختفى سمكو ثم خرج من البيت وبيده بندقية وبتصوبيه إياها نحو البطريرك اطلق النار في ظهره وأرداه قتيلا ثم أطلق أخ سمكو من مسدسه مكملا بذلك قتل البطريرك، لقد كانت طلقة سمكو إشارة للأكراد المختبئين في تحصيناتهم من بين الأحياء وسطوح البيوت، بقى كل من داويذ أخو البطريك وقائد السرية دانييل والعقيد كوندارتييف وبعض الجنود، وقد روى العقيد كونراتييف فيما بعد تفاصيل مقتل البطريرك”. انتهى الاقتباس.

وأما كتاب آغا بطرس في ص 128 أعلاه يذكر:

(قبل مجئ الكابتن البريطاني “كريسي” الى أورميا كان قد التقى اسماعيل آغا “سمكو” الآغا الكردي الشكاكي، وبعد هذا التقى بمار شمعون ونصحه بمواجهة سمكو وتسوية كل الخلافات بينهما خدمة لمصلحة الطرفين، لم تكن الفكرة موضع ارتياح البطريرك لأنه لم يثق به، ولكن كريسي بمكره أقنع البطريرك بأهمية هذه الخطوة، في تلك الظروف، وفي التاريخ المحدد للزيارة وهو 3 اذار 1918، توجه مار شمعون الى “كونا شهر”، يرافقه أخوه القائد داويذ، والجنرال اروسي ” بلكونيك كونراتوف ” وأربعة من الضباط الروس، ساروا جميعا بحراسة “150” فارسا آشوريا مسلحا استقبلهم سمكو استقبالا لائقا مظهرا لهم ترحابا حارا، ولدى وصول المركب الى قصره، تقدم برجائه للبطريرك لنزع سلاح الآشوريين ووضعه في أركان قريبة منهم بدلا من أن يكون على مناكبهم أو في إيديهم مدعيا بأن مظهر الفرسان المسلحين، يثير الهلع والفزع في قلوب مواطنيه وأهله ، لم يتأخر البطريرك من تلبية طلب سمكو حيث أمر بتجميع سلاح المقاتلين وركنه على الحيطان القريبة من مربط الفرسان.

كان الجميع بانتظار البطريرك وأخيه ” داويذ” اللذان دخلا مع سمكو الى القصر، جرى حديث الساعة مع سمكو واتباعه وكان الحوار عقيما لم يتمخض عن أية فائدة ولم يرض عنه البطريرك، وبعد احتساء القهوة، استأذن مار ينيامين وأخوه بالخروج، رافقهما سمكو مودعا حتى باب القصر، ولدى تقرب البطريرك من العربة، أطلق عليه النارمن الخلف وسقط في الحال مضرجا بدمائه، وبدا الرصاص ينصب صبيبة على الفرسان الآشوريين من السطوح ومن وراء الأبواب والشبابيك، وإنجلى ذلك الموقف عن مذبحة مروعة ذهب ضحيتها البطريرك ، و” 47 ” فارسا من فرسانه، بالإضافة الى اربعة من الضباط الروس، وأما “داويذ” اخو البطريرك، فهرب وهو مصاب فاختبأ في بيت أحد الأرمن في تلك المدينة.

مثل القتلة بجثمان البطريرك، حيث اجلسوه على كرسي وهو صريع ثم بتروا إصبعه وخلعوا الخاتم منها، ونقل الخبر ضابط روسي ” بلكونيك كراندراتوف ” الذي نجا من المذبحة باعتلائه صهوة جواد قريب منه، وهرب به هربا باتجاه مدينة “خوسراوا”، وأخبرت سرما أخت البطريرك مار بنيامين “آغا بطرس وملك خوشابا وبقية الرؤساء برسالة عاجلة، بالنازلة الكبيرة التي حلت بهم” انتهى الاقتباس.

ويضيف المطران إيليا أبونا بأنه قبل مغيب الشمس شاع الخبر بين الآثوريين في منطقة سلامس، وعلموا أن البطريك قد نال اكليل الشهادة، وكانت لحظات مريرة ومأساوية، كانت فاجعة سقطت على رؤوس أبناء الأمة كلها. وارتفع البكاء والنواح المرير.

وتسلح الشباب الآثوريون وتهيئوا للقتال، ثم راحوا يزحفون على تلك المدينة اللعينة الغادرة وطوقوها، ونشب بين الطرفين قتال شديد، وكان الأكراد قد حفروا خنادق امام مدينتهم، وتمركزوا فيها، وارتقى البعض الآخر منهم على السطوح والأبراج والحصون التي امتلأت بهم، وحاولوا صد الآثوريين بنيرانهم لمنعهم من الدخول الى المدينة، إلا أن أبناء نمرود الجبابرة هاجموا سواتر الأكراد وخنادقهم كالنسور الكواسر، واقتحموا تحصيناتهم وقتلوا كل من وقع في أيديهم إلا أن سمكو الكلب المسعور، ولى هاربا مع رجاله عبر الجبال الى حصنه.

ودخل الآثوريون المدينة عند مغيب الشمس بعد أن سقط قسم منها في أيديهم، فأحرقوه بكل ما فيه. ولدى حلول الظلام جاءوا بالمصابيح وراحوا يبحثون بين القتلى عن جثة حبيبهم البطريرك الشهيد المظفر، فعثروا عليه بين جثث أبنائه محبي الحق والعدالة الذين شاركوه موته، واختلطت دماؤهم بدمه الطاهر، وانحنوا على جسده وراحوا يقبلونه ويلتقطون بثيابهم تبركا، ثم حملوه بوقار وخشوع واتوا به ووضعوه في تابوت جديد، ونقلوه الى كنيسة مار كيوركيس في “خوسراوا” مع اجساد جميع الشهداء الذين قتلوا معه، وكانوا قرابة سبعين رجلا دفنوا في إجلال ووقار وظلت اجواق الاكليروس تصلي على جسد البطريرك حتى فجر اليوم التالي وكانوا يحيطون به وهم يرتلوا التراتيل الشجية، وظل جثمانه في الكنيسة حتى يوم الاثنين من مدخل الصوم الكبير، وتقاطرت الجماهير من اطراف منطقة “خوسراوا” على مدينة “كوناشهر” الملعونة واستولوا عليها وأحرقوها كلها، انتقموا من أولئك الاشرار الغادرين الذين اقترفوا جريمتهم الشنيعة تلك بلا سبب ولا مبرر.

وفي يوم الاثنين من الصوم حضر مار بطرس عزيز رفو العوع، أسقف “خوسراوا” على إخوتنا الكلدان مع اكليروسه، كما حضر اكليروس الكنيسة القديمة وأبناء الأمة كلها، قدموا زرافات ووحدانا الى الكنيسة المذكورة، وشرعوا بالصلاة على روح البطريرك بحسب طقس الكنيسة القديمة بالتراتيل والأنغام الشجية والترانيم العذبة والمراثي الممزوجة بالبكاء المرير، وعم الأسى والحزن الجميع. وحمل الجثمان حتى كنيسة الأرمن القديمة، وهناك دفن في الجانب الغربي من الهيكل لجديد في قبر جديد. ولدى إنزال تابوته في القبر اطلقت القوات الآثورية الرصاص لدفعات ثلاث كما هو التقليد المتبع في توديع الملوك العظام الى مثواهم الأخير.. رحمه الله، ونوره الدائم يشرق عليه.

هناك مصادر عديدة تتطرق الى هذه الجريمة الغادرة النكراء، وهناك اختلاف في من استشهد في هذه الحادثة، كما تذكر المصادر أن ستة اشخاص من الآثوريين والروس نجوا من الموت، ومن هذه المصادر: ب. أرسانيس.. تاريخ الآثوريين، ك . ل . ماتفييف ومار يوحنا.. تاريخ كورش، يعقوب شليمون.. تاريخ الآثوريين، يوسف مالك خوشابا.. حقيقة الأحداث الآثورية المعاصرة، الأب جوزيف نعيم.. هل يجب أن تموت هذه الأمة، إيشو مالك خليل.. الآثوريون في التاريخ، مس بيل.. فصول من تاريخ العراق القريب، عوديشو ملكو.. سفر آشيثا، وغيرها”.

في الحلقة القادمة نتحدث عن سوما خانم أخت البطريرك مار شمعون بنيامين.. بعون الله.

 

zowaa.org

menu_en