قد تعطينا لفظة الثقافة بأبسط تعاريفها الآثارية: هي جميع نتاجات الإنسان ضمن حقبة زمنية معينة ومحددة كمرحلة سكن الكهوف وجمع الثمار والصيد وصناعة المقاشط الحجرية والمناجل ودولاب الفخار وصناعة اللبن والطابوق وطرق الدفن أو حرق الجثث في بعض الأحيان، وابتكار العجلة والزراعة وجمع القوت والغلة وبناء المستوطنات الريفية القديمة والمعابد والتحصينات الدفاعية والقصور. أمّا غير المادية فهي العادات والتقاليد وغيرها.
وهذا المصطلح بدأ بالظهور عند المشتغلين والمعنيين بالآثار ومؤرخي الفنون وتحقيب العصور، وهو بذا يبدأ بالظهور منذ العصر الحجري القديم في بلاد الرافدين القديمة (170,000-2900 ق.م) وحتى العصر الشبيه بالكتابي ودور الوركاء (بحدود 3700 – 3200 ق.م)، وهي بداية مرحلة جديدة التي ستبدأ معه بابتداع الكتابة.
أي أنّ هذه الفترة لا يمكننا أن نسميها عصور وحقب، بل ثقافات، مثل ثقافة نينوى 5، الطبقة الخامسة تعد من ثقافات عصور ما قبل التاريخ التي شهدتها حضارة بلاد الرافدين وشمال شرق سوريا، وارتبط وجودها بالأساس بفخار نينوى الطبقة المكتشفة من قبل المنقب البريطاني ماكس مالوان في أثناء تنقيبه في تل قوينجق عام (1929- 1932م)، وثقافة دور حسونة وثقافة القوقاز وغيرها.\أمّا الكتابة والتي تعدّ وسيلة ابتدعها الإنسان بتدوين الكلام بهدف التذكر والإخبار أو كليهما، وهي أفضل المظاهر الحضارية عالميةً، حيث تؤكد جميع الأدلة الآثارية والتأريخية أنّ الكتابة غيرت اسلوب حياة الإنسان تغييراً جذرياً إلى درجة عدّها بعض الباحثين الحد الفاصل الذي يميز الإنسان المتحضّر والإنسان البدائي، في حين عُدّ ابتداعها آخرون البداية الحقيقية للحضارة برمتها، والعصور التأريخية لأنّها كانت الوسيلة التي دُوّن بها التاريخ، لذلك سميت العصور الأولى أحياناً عصور ما قبل الكتابة، والعصور ما بعد الكتابة.
وبالنسبة للكتابة بعامة، فإنّ هناك من يرى أنّه من الممكن لأي مجتمع معاصر أن يعيش بدون نقود أو معادن أو أخشاب أو بدون مذياع أو تلفاز أو بدون المكائن البخارية أو القوة الكهربائية، إلا أنّه من الصعب عليه حقاً أن يعيش حياة اعتيادية ويسهم في تطور الحياة المعاصرة من دون كتابة.
أمّا ما يليها من فترات تأريخية فنسميها عصور وحقب، كالعصرين: البابلي والآشوري القديمين والوسيطين والحديثين وعصر ما قبل الإسلام والعصور العربية الإسلامية الوسطى والعصر الحديث والمعاصر.
تعريف الثَقافة:
“مجموعة من الأفكار والمعلومات والخبرات التي تنتشر في مجتمع ما بسبب التأييد الاجتماعي لها، ويكون أساسها التراث”. “مجموعة من الأفكار التي تدور حول الحياة والاتجاهات العامة ومظاهر الحضارة التي يتميّز بها شعبٌ ما، وتُكسِبُهُ مكانةً خاصةً في العالم”. تمكُّن من العلوم والفنون والآداب، غنى فِكريّ ومَعرِفة واسعة وثقافة عامة.
تفسير الثقافة:
تشير الثقافة إلى المدخرات التراكمية من المعرفة والخبرة والمعتقدات والقيم والمواقف والمعاني والتسلسلات الهرمية والدين ومفاهيم الزمن والأدوار والعلاقات المكانية ومفاهيم الكون والأشياء المادية والممتلكات التي اكتسبتها مجموعة من الناس على مدى الأجيال من خلال الأفراد والمجتمعات.
دِلالة الجذر اللغوي (ث ق ف) في الكتابات واللغات السامية:
وردت اللفظة في النصوص المسمارية المدونة باللغة الأكدية (البابلية – الآشورية) وتحديداً في نصوص العصر البابلي القديم ونصوص نوزي الحورية قرب كركوك بصيغة : # تَكّاپُtakkāpu، بمعنى: ثَقِفَ بالمهنة، وحذق بالحرفة.
وفي العربية ثقف: ثَقِفَ الشيء: ظفر به، ومنه قوله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأنفال: 57]، وثَقِفَ: إذا صار حاذقاً فَطِناً، وفي حديث أم حكيم بنت عبد المطلب: إنّي حَصانٌ فما أُكَلَّمُ، و #ثِقافٌ فما أُعَلَّمُ. وثَقِفَ الرجلَ: ظُفِرَ به، والثقيفةُ: حديدة تكون مع القواس والرّماح، يقوم بها الشيء المِعوَجّ، وتثقيفُ الرماح: تسويتها، وثَقِفَ فلان فلاناً: أي أخذهُ.
أمّا في العربية الجنوبية (السبئية) فترد بصيغة # ṯqf ومنه المزيد بالهاء hṯqf بمعنى عَبَّر أو صَرَّح، و tṯqf بمعنى عُيِّن أو نُدِب إلى منصب أو مهمة.
وفي العبرية: فيها #תקיף / tāqēf بالتاء، بمعنى: غلب أو ق أو تسلَّطَ على عدوه، وتتبع هذه الكلمة العبرية الجديدة المتأخرة. والمنتظر أن تتغير إلى الشين لا إلى التاء.
وفي الآرامية والسريانية والمندائية (الصابئية) #ܬܩܦ ت قِ ف: اشتدَّ وقوي؛ وفي النبطية ت ق ف: وتعني وثيقة، سُلْطة.
المعنى العام: الأخذ بالشيء بقوة.
مصادر وأقسام الثقافة المجتمعية:
- المعتقدات والمعارف الشعبية:
- العادات والتقاليد الشعبية:
- الأدب الشعبي:
- الفنون الشعبية:
- الثقافة المادية:
- الثقافة غير المادية:
هو التراث الملموس، الذي يتمثل بالتقاليد والعادات وبعض المهارات التي تنتقل عبر الأجيال ويشمل الصناعات والحرف، وأساليب الزراعة، الصيد، الأساليب والممارسات منها الأغاني، مهارات الطبخ ، المعتقدات والتقاليد والأمثال وكل الممارسات الثقافية الشفوية.
الفرق بين الثقافة والحضارة:
كلمة حضارة ككلمة ثقافة، يكثر دورانها اليوم في المحاضرات والندوات والتأليف، فيقولون: فلان متحضر، وفلان غير متحضر، والأمة الإسلامية أمة متحضرة، وكما يوصف الأفراد والجماعات بالتحضر توصف بها الأعمال، فالمعاملة المهذية توصف بأنها حضارة، والغلظة والجفاء توصف بعكس ذلك والعرب تريد بالحضارة ما يقابل البداوة، والحاضرة تقابل البادية، وخلاصة ما في المعاجم اللغوية عن مادة حضارة تنتهي بنا إلى أن الحضارة هي حياة المدينة، والبداوة هي حياة البادية، والحضر سكان المدن، والبدو سكان الصحراء.
ولم تعد كلمة حضارة في العرف المعاصر مقصورة على مدلولها القديم المقابل لمدلول كلمة بداوة”، وإنما جاوزته إلى مدلول آخر هو التعبير عن ارتقاء المجتمع وارتفاعه عن المستويات البدائية، ويقصدون عادة بالمجتمع المتحضر ذلك المجتمع الذي له قيمه الروحية الرفيعة، وأساليبه المادية المتطورة في مواجهة الحياة الطبيعية.
بناء على هذا التعريف لكلمة حضارة يكون مصطلح الحضارة أوسع وأشمل من كلمة ثقافة، فالثقافة كما عرفنا هي أسلوب الحياة السائد في مجتمع ما، وهذا الأسلوب إنما هو ثمرة الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، والمبادئ الروحية، والأصول العقائدية، فالثقافة على ذلك هي المحيط الذي يشكل طباع الفرد وشخصيته، أما الحضارة فإنها تضم إلى جانب هذا الرقي المادي الذي بلغه الفرد، وبلغته الأم.
ويری بعض الباحثين أن مدلول الثقافة مساو لمدلول الحضارة، فيشمل كل منهما الجانب المعنوي والجانب المادي. ویرى فريق ثالث أن الحضارة تعي ما توصل إليه مجتمع ما من تقدم مادي في الصناعات والابتكارات والمخترعات والبناء والزراعة وغير ذلك، ولا يعونها إلى الجانب المعنوي في حياة الأمة.
ويبغي أن نلاحظ هنا أمرين، الأول: أن علاقة الثقافة بالحضارة مبنية على تحديد المعنی الاصطلاحي لكل منهما، فقد يكون الاصطلاحان متساويين، وقد يكون مدلول الحضارة أوسع وقد يكون مدلول كل منهما مختلا عن الآخر، وقد قال العلماء قديما: لا مشاحة في الاصطلاح.
الثاني: أن العلاقة بين الثقافة والحضارة علاقة وثيقة، فإما أن تكون الحضارة والثقافة شينا واحدا، فثقافة الأمة وحضارتها بناء على ذلك تعني المستوى الرفيع الذي بلغته الأمة في فكرها وتصوراتها وعقائدها وأخلاقها، وإما أن تكون الثقافة هي الركيزة التي تقوم الحضارة عليها – إذا عنينا بالثقافة الجانب المعنوي، وبالحضارة الجانب المادي.
*جانب من مشاركتي يوم الإثنين الموافق 30 / 12 / 2024 الساعة العاشرة صباحا بالندوة العلمية (59) التي أقامها مركز الدراسات الاقليمية بجامعة الموصل بعنوان (الثقافة العامة ودورها في تنمية الوعي)، وفي قاعة عمادة كلية العلوم الإسلامية، بورقة العمل الموسومة: “الثقافة في المنظور الآثاري والتراثي”.
أ . د . عامر عبدالله الجُمَيّلِي/ مركز دراسات الموصل بجامعة الموصل*