فواد الكنجي
الرأسمالية بتكنولوجيا الاتصالات الحديثة غيرت العالم وطبيعة حياة الفرد لتفرض على الإنسان القهر المادي والغربة والضياع والعبثية والانصياع إلى شهواته وملذاته الحسية:
لذلك فإن (الحضارة المادية المعاصرة) في ظل (الرأسمالية) المتوحشة ونظامها (المعولم بالمفاهيم الليبرالية) والتي تغذيها الفلسفات المادية الإلحادية والعلمانية والبرجماتية والوجودية، والتي تكون تحت رعاية الحكومات (الرأسمالية) والقوى السياسية النفعية التي توظف كافة إمكانيات حكومات الدول وسلطتها ومؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، لدعم هذا الواقع المتوحش على الأفراد لتفرض على الإنسان القهر المادي والغربة والضياع والعبثية والانصياع إلى شهواته وملذاته الحسية، فيرضخ صاغرا بالقبول بالأمر الواقع المنحرف والبائس والاستسلام إليه وتشعره أفعاله بالحقارة والتفاهة والدناءة، بسبب انغماسه في مغريات المادة بما يشهده العالم من ثورة صناعة وخاصة في مجال (تكنولوجيا الاتصالات) التي غيرت العالم وطبيعة حياة الفرد، والتي أثرت على مختلف مناحي الحياة وعلى جميع الأصعدة الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والتي أسهمت في التغيرات السلوكية التي طالت الأفراد والمجتمعات لدرجة التي دفع بالأفراد لتخلي عن ثقافتهم (القومية) وهويتهم (الوطنية) دون تفكير بمخاطر ذلك على مستقبلهم، لأن ثمرة تمرد الفرد على الثقافة المجتمع الذي يعيش فيه كانت سقوطه اللاواعي في أزمة (الاغتراب الثقافي) التي أصبحت ظاهر المجتمعات التي غزتها (العولمة) بعد ثورة (الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة) وما تبثه الأجهزة الالكترونية المتطورة عبر تقنيات الاتصالات الحديثة وشبكات الانترنيت والتي هي من دفعت الفرد بالعزلة والوحدة وبعدم الرغبة في إقامة علاقات اجتماعية سليمة أو التواصل مع الآخرين، لعدم انسجامه معهم أو التكيف مع بيئتهم، لشعوره الدائم بسلبية أفعالهم وتصرفات أفراد المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه المشاعر التي تنتابه هي التي تجعله يشعر بـ(الاغتراب عن الذات) بما يجعله ينفصل عن (ذاته) فيغترب عن الثقافة التي تربى عليها، ليجد من خلال تواصله المستمر مع أجهزة (الاتصالات الحديثة المتصلة بالإنترنيت) وما تبثه (ثقافة العولمة) فيها، باعتبارها – كما يضن (الفرد) – هي النموذج الأمثل لتطلعاته العصرية، فينغمس في مواكبة (ثقافة العولمة الغربية)، وهذا ما يؤدي بـ (الفرد) نتيجة لتناقض بين ثقافتي ثقافة التي نشا فيها وثقافة التي تأثر بها، وهذا ما يجره إلى رفض واقعه فيشعر بالضيق والاختناق من عالمه الحقيقية، وهذا ما يؤدي بعجزه عن السيطرة على مشاعره وأفعاله وتصرفاته ورغباته فتضيع أهدافه، لتصبح حياته بلا هدف، وهو الأمر الذي يدفعه إلى (اللا مبالاة) فيتحول إلى إنسان عبثي همه هو المصلحة والمكاسب لأن جل سلوكياته التي تصدر عنه ليس لها ضوابط أو معايير تحكمها فيتمرد عن واقعه بما فيها من قوانين وأعراف وآداب وقيم عامة مجتمعية، وهذا هو (الاغتراب الثقافي) لينتج عنه الكثير من الظواهر السلوكية والأمراض الاجتماعية نتيجة انحراف سلوكية خطيرة تورق المجتمعات.
مجتمعات العالم مطالبة ببناء الوعي على مستوى الفرد والمجتمع وباستراتيجيات علمية لمواجه الفكر بالفكر:
وحينما يكون المجتمع إزاء هذه الظاهرة من (الاغتراب الثقافي) فلا بد من مواجهتها بفكر وثقافة وتربية وتعليم معاصر، تضمن في تكوين اتجاهات ثقافية ايجابية متمسكة بهوية المجتمع لاندماج المجتمع بـ (المعاصرة) وفق رؤية تأخذ كل الاعتبارات الجارية مع نموذج (التطور التكنولوجي) و(ثورة الاتصالات)، لبناء مستقبل أفضل للأجيال التي تعيش واقعنا المعاصر بكل ايجابياته وسلبياته، لتتمكن الاندماج والمشاركة بفعالات تنموية تعالج كل قضايا المجتمع اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وأخلاقيا وكل ما يتعلق بـ (الدين) و(التراث) من أجل تأصيل الهوية الثقافية ودعم شخصية الفرد لإقامة علاقة متوازنة بين الثقافة الدخيلة للمجتمعات الخارجية بثقافاتها المتعددة والآتية عبر (العولمة) وثقافة الأصيلة للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد، لدعم العلاقة بين أفراد المجتمع وفق معطيات (الفكر المعاصر) لخلق توازن بين (الثقافة المتجددة) و(الثقافة المحافظة) من أجل مواجهة تحديات (الاغتراب) التي تواجه هويتهم الثقافية.
ولتنفيذ هذه المهام لا بد من تفعيل دور (التربية) و(التعليم) للاهتمام بالهوية الثقافية لتشكيل وعي يهيئ المتلقي من التلاميذ والطلبة منذ نعومة أظافرهم بمناهج التفكير العقلاني في السلوك والتدبير ليواكبوا (التطورات المعاصرة) و(ثورة الاتصالات) عقليا ووجدانيا واجتماعيا، لخلق مناخ ثقافي واعي يمهد لفتح الحوار مع الحضارات الأخرى ليتم اكتساب منهم الخبرة بمختلف اتجاهات الحياة وفق مبدأ الأخذ والعطاء والتفاهم والتعاون والانفتاح والإفادة من المستجدات والاتجاهات النافعة.. وأخذ ما يلاءم معايير على الصعيد (الأسري) أو (المجتمع).
فعلى (الصعيد الأسري) لا بد من الإشراف الأبوي على محتوى ما تبثه وما يشاهده المتلقي سواء كان طفلا أو مراهقا أو شابا، من خلال (شبكة الإنترنيت).
وعلى (الصعيد المجتمع) يجب توجيه مؤسسات (التعليم) و(التربية) لإتباع منهج تربوي يعزز احترام الثقافة السائدة في المجتمع، والاهتمام بـ (اللغة الأم) لأن (اللغة) هي الوسيلة الأساسية الذي تنتقل (ثقافة المجتمع) من جيل إلى آخر وعبرها، ليتم خلق جيل متدرب يكتسب أبناء المجمع مهارات الذكاء الثقافي، ومتى ما امتلكها الفرد فانه – لا محال – يستطيع الانفتاح وهو واثق بقدراته وإمكانياته على الثقافات الأخرى والتعايش معها مع الحفاظ على ثقافته مجتمعه الأصلية والتي تكون بمثابة دعائم متينة تقف بوجه الأفكار الضالة وانتشارها عبر منصات (التواصل الاجتماعي) التي تغزو كل مجتمعات العالم في هذه الأيام، لذلك يتطلب بناء (الوعي) على مستوى (الفرد) و(المجتمع) وباستراتيجيات علمية لمواجه الفكر بالفكر، وفي نفس الوقت تواكب العصر والمعاصرة بثورة الاتصالات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، لتكون ذلك في صلب أنشطة مؤسسات (التربية والتعليم) و(ثقافة الأسرية)، ليستمر توسيع هذه القاعدة من اجل ترسيخ أسسها من خلال الثقافة السائدة في المجتمع، ليشعر (الفرد) بانتمائه (القومي) و(الوطني)، وكلما ترسخ هذا الشعور في نفوس الأفراد كلما تنامي الشعور بالأمان والألفة بين أفراد المجتمع الواحد، لأنه يشعر بأن كل من حوله يتحدثون بـ(اللغة) ذاتها وتجمعهم روابط مشتركه سواء من اللغة والعادات والتقاليد والقيم المجتمعية.
ومن هنا تبرز أهمية (الوعي) و(الثقافة البناءة) لمواكبة (حداثة التكنولوجيا) و(ثورة الاتصالات) لتقبل الآخر من حضارات ومجتمعات العالم، بعد أن يدرك (الفرد) كيف يستثمر (الاختلاف) للتكامل البناء المثمر لثقافة (الفرد) و(المجتمع) لأنها تبعد (الفرد) من مشاعر (العزلة) و(الاغتراب).