نبيل يونس دمان
البطاقة التموينية دخلت القوش في سني الحرب العالمية الثانية ، التي اطلق عليها ( سنة التموين 1944 ) ، سنوات اخرى أرّخها الاهالي حسب الاحداث المتميزة فيها مثل : سنة الفريق ( 1893) ، وسنة الثلج الكبير ( 1911 ) ، وسنة السونة ( حشرة السنـّك ) ، سنة الميران ، وسنة الزيدكيين ، وغيرها . من خلال تلك البطاقة كانت توزع حصة المواد الغذائية ، وكانت الساحة المقابلة لمركز الشرطة ، تشهد كل صباح حشود الناس التي تنتظر اسمها في القوائم المعدة لذلك الغرض . وفي نفس الوقت توقفت المشاريع والاعمال ، وبات التفكير بمصائر الحرب هو السائد ، فالكل يتابع الاخبار ، مجالس القوش انقسمت بين مؤيد لدول المحور او دول الحلفاء ، الناس تترقب ما تسفر عنه تلك الكارثة الاممية التي تحصد البشر بالملايين ، وازداد القلق اكثر، كون تركيا التي اذاقتهم العذاب لقرون ، جارتهم الشمالية وحليفة لالمانيا النازية التي ارادت ان تتزعم العالم …. من وحي افكار شوفينية ، استعلائية ، عنصرية مقيتة . في نفس الفترة اجهد الحلفاء في انشاء خط دفاعي امام احتمال توغل القوات الالمانية في العراق ، في حالة انتصارهم في جبهة العلمين ، فتعبر قواتها مناطقنا باتجاه بحر قزوين وباكو لمحاصرة الاتحاد السوفيتي من ذلك الجانب . هكذا حفر الانكليز الذين كانوا شبه محتلين للعراق ، خنادقا في سهل القوش اعوام 1941- 1942- 1943 وبنوا مواقع قتالية محصنة في جهة الجبل المقابلة لقرية ( داكان ) الأيزيدية ، عندما جابههم نهير ( بهندوايا ) لم يكن امامهم سبيل ، سوى اقامة جسر كونكريتي مسلح ، سبحان الله ان يدخل الاسمنت لاول مرة في محيط بلدتنا للاستخدام العسكري. حدثني الكثيرون الذين عملو في تلك المشاريع ، واشادو بمراقب العمل الصارم ( اسطيفو بجي بلو ) الذي كان يتنقل لمراقبة العمل ، وهو على صهوة جواده .
في عام 1963 اعيد العمل ببطاقة التموين مرة اخرى ، وهذه المرة اصعب واكثر أيلاما ً واطول مدة ، نتيجة انطلاق الثورة التحررية الكردية . اعتاد ( ميخا ) احد الساكنين قرب مركز الشرطة ( قشلة ) ان يمر امام المركز حتى يبلغ السوق وبحكم الجيرة وحاجة منتسبيه الى خدمات بيته كانت الشرطة لا تزعجه كثيرا ً، والا كما هو معلوم في كل ازمنة البلدة ، كانت الشرطة تفرض قوتها وتلحق الحيف بالاهالي ، واشتدت تلك الامور كثيرا ، بسبب تغير الظروف السياسية في البلد ، فخلف الجبل قتال ، وفي كل المدن المتاخمة للجبال تحاول السلطة جهدها فرض حصار اقتصادي على المقاتلين ، فقننت شراء المواد الغذائية والمحروقات بالورقة التي يوقع عليها مدير الناحية او من ينوب عنه ، واصبحت تلك الورقة عملة نادرة ، وباستمرار تزداد الحاجة الماسة لها ، حيث التقييد على المواد الغذائية الاساسية كالسكر والشاي والرز والصابون ، وتقليص كميتها الى الحد الادنى جعل الناس في ضيق شديد . كان مدير الناحية يربط عملية توزيع الاوراق به او من ينوب عنه وحسب مزاجه ، يعطها لمن يشاء ويحجبها عمن يشاء ، باستمرار تتجمع الناس امام المركز نسوة ورجال مرضى ومسنين ، وتعبث بهم الشرطة دفعا ، صياحا ، واهانة . اتذكر مرة دخل العم ( حنا ) احد مسني البلدة ، غرفة المدير لطلب تلك الورقة اللعينة ، بعد ان مهد له السبيل فراش المدير ( يوسف قوجا ) ، فانحنى الى الارض امام طاولة ( سيروان الجاف ) قائلا : ” اسعدت صباحا يا سعادة البيك ” وما ان سمع المدير بكلمة البيك ، حتى انزعج جدا وقام من كرسيه الوثير ليدفع بالمسن خارج الغرفة ، وامر الفراش ان لا يدخله ابدا الى غرفته ، حاول يوسف قوجا ذلك الرجل الطيب ، ان يخفف من هموم العم حنا ، فمسك بيده حتى باب المركز ، والدموع تأبى التوقف ، فتنساب على وجه العجوز ولحيته البيضاء . هكذا كان الزمان رديئا ً والمسؤول صلفاً ، متجبراً ، حاقدا ، يتصرف كيفما يشاء فهو الحاكم المطلق يفعل ما يحلو له .
كانت الاوراق توزع احيانا اخرى من قبل البلدية او من مختاري المحلات وحسب قوائم السكان وعدد نفوس الاسرة ، مع استثناء عوائل الملتحقين بالحركة الكردية ، فكانت العوائل الابية تساعد تلك الاسر واطفالها من تموينها الخاص ، ففي المآسي والملمات ، يشرع الشرفاء بتقاسم الخبز مع الجياع . كانت الشرطة او العسكر تراقب وتشرف على توزيع المواد الغذائية في السوق ، وكانت بضعة دكاكين يحق لها بيع التموين ، وقد منحت اجازة تعهد فيها صاحب الدكان ان لا يبيع ابدا مواد تصل في النهاية الى الثوار من الشيوعييين اوالبارتيين ( الديمقراطي الكردستاني ) ، وقد ثبتت على واجهة الدكان رقعة ( وكالة المبايعات الحكومية ) وتحتها اسم الوكيل ورقم اجازته الصادرة في الموصل . عندما تراقب الشرطة طوابير المواطنين في السوق او في محطة تعبئة المحروقات ( انذاك بيت الياس جيقا ) ، كانت تمسك بالعصي وتنهال ضربا على الناس لأتفه الاسباب ، او تدفع بصفائح النفط الفارغة ( التنكات ) التي يرصها الاهالي امام المحطة فيتعالى ضجيجها ، او تتحرش بالنساء والبنات ، ذلك كان حالنا لسنوات مديدة .
تصور عزيزي القارئ حتى النزول الى المدينة كان ممنوعا في بعض السنين ، اتذكر عندما احتاج والدي النزول للبحث عن العمل في بغداد لم يسمح له فبتنا في ضيق وعوز ، حتى انفرجت بعد ان بعث احد اقربائنا من بغداد برقية عاجلة ، يطلب فيها بالاسم من والدي السفر الى بغداد للعمل ، وهكذا منح ورقة عدم التعرض ليجتاز بها السيطرات الحكومية . كانت اول سيطرة هي تلك المقابلة لمعسكر خيم حول ضريح المار قرداغ ، وفي احد الايام اطلق احدهم رصاصة على الصليب المرمري فوق الضريح فاسقط جزءه العلوي ، كانت نساء البلدة على الدوام يطلبن من الرب ان يشل تلك اليد التي طالت مقدساتهم . والسيطرة الاخرى الشديدة كانت في مدخل الموصل ( المجموعة ) ، كل يوم كانت الاغراض والمقتنبات الشخصية تبعثر فتخلط مع بعضها واخرى تسرق ، والتموين الذي يتجه الى بغداد ( البرغل مثلا ً ) كان يغرز في اكياسه قضيب حديدي للتاكد من خلوه من المواد الصلبة كالاسلحة ، اما الصور الشخصية فيتم التدقيق فيها ، واذا عثر على صورة لشخص يرتدي اللباس الكردي فيذهب جلده للدباغ . كانت اسرتي آنذاك مؤلفة من ثمانية أنفار ، والورقة التموينية لشهر كامل تسمح بالتزود بكيلوين سكر ، نصف وقية شاي ، كيلوين رز، 4 صوابين غسل ، و4 غالونات نفط ابيض ، اغلب الاشهر كانت الكمية تنفذ فنضطر للاستدانة من الاقرباء او الجيران .
في احد تلك الايام كان المركز منشغلا ليواجه الهجوم المرتقب للثوارعليه ، يستعد في تعزيز مواقعه وعمل المتاريس المحصنة على السطح ، وجهز لهذا الغرض عدد كبير من الاكياس الصغيرة الكاكية اللون ، وكمية كبيرة ايضا من الرمل ، ثم ابتدأ افراده بتعبئة تلك الاكياس ووضعها عل سطوح البناية التي كانت تشبه القلعة . احتاج الى ايدي عاملة بالمجان ( السخرة ) من ابناء البلدة ، ولذلك كان كل تعيس الحظ يمر امام المركز او قربه في ذلك النهار ، تقتاده الشرطة ليعمل معهم في حمل كواني الرمل الثقيلة . غادر ميخا بيته ذات صباح شتوي ، ذلك الساكن قريبا من مركز الشرطة كما نوهنا ، واحتياطا من المتاعب سلك طريق قريب من المركز ، وجلب انتباهه جمهرة امام البوابة ، ربما عرف ماذا يدور هناك ، او تصور شيء اخر، ولذلك عند وصوله السوق ، تحدث عن تلك الجلبة التي قال انهم يوزعون بطاقات التموين ، اصغى احد الحضور لكلامه وكان حاملا كمية من اللحم والخضار وهو في طريقه الى البيت ، واعار اذنا صاغية ليلتقط كلمات ورقة التموين والتوزيع ، فاستفسر من المتكلم ، للتاكد مما يقوله ، فقال له شاهدت تجمع الاهالي قرب المركز ، اكبر الظن انها اوراق التموين . نظرا لحاجة صاحبنا الماسة اليها ترك مسواقه في احدى الدكاكين لفترة وجيزة حتى يعود ، وتوكل على الله وسلك الطريق العمودي المتصاعد الى موقع المركز في سفح الجبل ، وعندما وصل قريبا منه لمحه احد افراد الشرطة ، واسرع اليه يسحبه للعمل المجاني ، ويقول الشرطي ” الله جابك ، جيت في وقتك ” ومن يستطيع الممانعة او التذمر ، سوى ان تنهال عليه السياط ، او تركب كذبة عليه او افتراء بانه يتعاون مع ( العصاة ) فيذهب جلده للدباغ ، عندما يشحن في حوض سيارة الشرطة المسلحة الى الموصل . بقي حتى العصر يحمـّل بالكواني الثقيلة من امام المركز الى فناءه ومن ثم يرتقي السلم الى السطح ، وهناك يرصها احد افراد الشرطة لتصبح سواتر ، وباشراف مباشر من مدير الناحية السيء الصيت سيروان الجاف . ظل صاحبنا في كل درج يرتقيه ، يشتم الرجل الذي قال انهم يوزعون بطاقات التموين ، ويلعن الساعة التي اوجدته في ذلك المكان . عندما عاد في العصر وهو منهك القوى ، منحني الظهر ، مبعثر الهندام ، فتش عن ميخا حتى يشفي غليله منه ، فلم يجده واخذ مسواقه الى البيت التي كانت امراته تنتظر المواد للطبخ ، فحتى الطبخ لم يتم ذلك النهار في بيته . ربما كانت مزحة ثقيلة من ميخا ، حيث لا يخلو منها السوق في تلك الازمان الصعبة ، ولكنها مؤلمة في جانبها الاخر الذي يعتبر الانسان آلة بيد السلطات تستغلها كيفما تشاء لا بل تسومها العذاب ، بدل ان تسعدها وتخدمها كما تدعي رياءاً شعاراتها التي تملأ الواجهات .