فادي كمال
تحرير مدينة الموصل وأنهاء ما يسمى بالدولة الإسلامية، كان الحدث الأبرز على الساحة خلال الأسابيع الماضية، والجميع أحتفل بالقضاء على هذا الوباء الذي انتشر في جسد الوطن وهدد كيانه ووجوده، ولكن هل أسقاط الدولة بشكلها الجغرافي انهى بالفعل وجودها الفعلي، الجواب بالتأكيد كلا. بلا تشخيص المرض لن نتمكن من تحقيق علاج لوباء شامل لم يتوقف عند “داعش”، بل انتشر ضمن بيئة مجتمعية كبيرة تحتضن التنظيم وتمثل منبعاً مستمراً لا ينضب، فيما محاولة الإصلاح تبدأ من مثقفي الأمة والذين عليهم نشر ثقافة جديدة تساهم في بناء المجتمع لا خرابه وتحطيمه. الإرهاب صناعة محلية لابد أن نعترف في بادئ الأمر أن الإرهاب صناعة محلية صرف، وأن تراكمات مجتمعية على مدى سنوات طويلة، أوصلت الى هذه النتيجة المأساوية، عندها فقط يمكن لنا الانتقال الى الخطوة الأخرى في بناء الجمهورية الحقيقية، فالدولة والمجتمع بمؤسساته، ساهما في نشر هذا الفكر وتغذيته، تشاركهما منذ سنوات عديدة خلت مدارس فكرية قد تتناقض مع فكر التنظيم الارهابي سواء مذهبيا أو حتى إيديولوجياً كالأحزاب اليسارية والقومية مثلاً، وكل ذلك الفكر كان يبث من خلال قنوات كان اجدر بها نشر ثقافة التسامح وقبول الاخر، كالمناهج التربوية، ووسائل الإعلام، والأعمال الفنية من مسلسلات وأفلام ومسرح، وكلها سُخِّرت للأسف لإنتاج نموذج فكري مريض بداء الاستهداف وحامل لفكر الحقد والكراهية. فماذا يتوقع من يزرع يومياً هكذا ثقافة بين المجتمع وتغذيتها أن يحصد. هل سيبني جيلاً محِبّاً للآخر متسامحاً مع ذاته؟ بالطبع كلا، وهل يعتقد كذلك أنَّ فوضى زرع الأحقاد يمكن السيطرة عليها إذا انفجرت، وعندما نهيئ أرضاً خصبة تتقبل أيَّ فكر متطرف وخاصة الديني منه لما للدين من احترام وتبجيل في محيطنا الشرقي، ألا يأتي من يزرع أفكاره وسمومه ويأتي ليحصد الآلاف من الشباب المؤمنين بعقيدة راسخة من الانتقام، أمَلاً في استرجاع حلم الدولة العظيمة الغابر ورداً للهجمة الموجهة ضد الأمة وثوابتها؟.
بموازاة ما سبق فإن سياسةً أخرى لا تقل شأناً في تخريب المجتمع ودفعه نحو الهاوية كانت تمارس هي الأخرى بفوضوية ولا مبالاة بعواقبها. فشيطنة جميع من يخالف اراء السلطة، والقاء تهم العمالة والخيانة للدول التي هي بالأساس متآمرة على الحلم العربي الكبير، والذي يحاول هؤلاء الساسة الفاسدون أو الديكتاتوريون تحقيقه لشعوبهم وامتهم، وتحشيد الجماهير ضدهم، والحكم عليهم بالإعدام شعبياً تمهيداً لتصفيتهم نهائياً، تلك السياسة التي انتهجتها الحكومات الدكتاتورية الشرق أوسطية بالعموم ضد معارضيها على مدى سنوات طويلة، أصبحت للأسف تقليداً مترسخاً في اذهان عموم تلك الشعوب.
والمحزن انها انتقلت وأضحت ممارسة يومية انتهجها المجتمع. فأخذت مجموعاته السياسية والثقافية والفكرية تخون احداها الأخرى وتلقي تهم العمالة هنا وهناك، كما تلقفت وسائل الإعلام هذه السياسة لسهولتها في قمع أي صوت مختلف فكرياً مع ثوابت ابتدعتها لتسويق منتجها، وجذب العدد الأكبر من المشاهدين المتعطشين لمثل هكذا طروحات، تحت مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. ولكن أغفل الجميع النتائج السلبية لسياسات غيرت وجهة المجتمع، وشرعت لكائنٍ من كان فرصة القاء التهم على الاخرين ومحاكمتهم، تحت عناوين مختلفة اختصرت اخيراً بالدين الذي أصبح سيفا بيد العارف والجاهل، فجعل المجتمع أما مولدة للإرهاب أو حاضنة خصبة له.
إن الحل يبدأ بالاعتراف أن ثقافة المجتمع على مدى سنوات طويلة، واختيارات الشعوب وحكامها لسنوات لم يكونا في الاتجاه الصحيح، وساهما بشكل مباشر أو غير مباشر في خلق الحالة التي نعيشها اليوم، وعندها لن تتمكن أي قوة خارجية من التأمر على حضارة السنوات والأمجاد الخالدة، رغم أن تلك القوى المتآمرة لا وجود لها الا في عقول وأحلام البعض.
الخطوة الثانية، الحشد الشعبي ما بعد التحرير لا يمكن لأي عاقل ان يغفل دور الحشد الشعبي في محاربة داعش والانتصار الذي ما كان ليتحقق لولا جهود وتضحيات أبناء هذا الحشد، ولكن تساؤل يطرح ما مصير الحشد ومقاتليه ومؤسساته وأسلحته بعد التحرير، وكيف سيتم الاستفادة من خبرته وقوته التي اكتسبها من حرب التحرير، للمساهمة في أعادة بناء جيش وطني قوي قادر على التصدي لأي خطر يهدد الوطن، ولا يعيد تجربة الانهيار المأساوي الذي وضع نصف البلاد على شفير الهاوية. واقع داعش فرض وجود الحشد الشعبي بمكوناته الحالية، والسبب في ذلك هو فقدان الجيش لعقيدة واضحة تمنحه دوافع الاستمرار في حربه التي كان يخوضها دفاعا عن كينونة الوطن ووجوده، ان الحشد الشعبي ككتلة واحدة متماسكة متراصة تخضع لقيادة مركزية صارمة لن يصنف في خانة المليشيات، ولكن ما نتحدث عنه هو معالجة وجود الحشد بعد ان تضع الحرب أوزارها، والقلق من انفراط عقد تلك المكونات.
تجربة اقليم كردستان الماثلة أمامنا والتي اثبتت السنوات الأخيرة تعثرها في توحيد قوى البيشمركة تحت سقف سلطة الاقليم، فيما ولاء كل طرف من طرفي تلك القوات ما يزال للحزبين الرئيسين، وهذا يؤكد فشل تحويلها من مليشيات تخوض حرب تحررية الى قوات نظامية. اما في الجزء الاخر من الوطن فان القضية اكثر تعقيدا، فمع وجود طرفين واضحيين في الاقليم متمركزين ضمن حدود جغرافية معلومة الى حد بعيد بينما نجد الحال في مناطق المركز اكثر ضبابية، فالمكونات المنضوية ضمن الحشد الشعبي عددها بالعشرات ورغم ان اغلبها من صبغة واحدة وهو ما يجمعها، الا أن ما يفرقها ويجعل احتمالات الاقتتال بينها اكثر بكثير، فما ان تضع الحرب مع داعش اوزارها، فان اطلاق الشرارة الاولى للحرب بين جميع الأطراف لن يكون بالأمر الصعب. ملامح الخطر تبرز في تلك النقطة من التحول والتي ستدفع باتجاه اضعاف اكثر لسلطة الدولة وهيمنتها على انحاء البلاد، فيما سيخلق “كانتونات” متناثرة تحت سيطرة امراء الحرب، ولا نستبعد في حينه اندلاع الحرب بين هذه الكانتونات في صراعها لتحديد خريطتها على الارض اولا، وطمعا في الموارد والثروات المادية والبشرية أحداها للأخرى، أضف الى ذلك صراع بعضها مع المليشيات الكردية والذي انكشف بشكل واضح في ما حصل بالطوز. ان الدخول في هذا النفق، سيكون كارثيا على البلاد والتي ستستنزف بشريا واقتصاديا اضف الى ذلك تدمير ما تبقى من بنىً تحتية، اما في حالة عدم تقاتل تلك المليشات وهذا مستبعد فأن مجرد خلقها كانتوناتها الجغرافية بقوة السلاح، سيمثل ضياعا لمفهوم الدولة وايقافا لعجلة نموها، وخسارة كبيرة للمواطن الذي يمني النفس بدولة القانون.
هنا تقع على الدولة مسؤولية كبيرة في التفكير جديا ووضع الخطط المدروسة والعملية بعيدا عن المزايدات الرخيصة، لتحويل الحشد الشعبي الى حالة ايجابية ضمن سلطتها وسيطرتها التامة، كما يجب ان يبدأ ذلك قبل نهاية الحرب، لان العمل لان يكون بالأمر اليسير وهو بحاجة الى الكثير من الجهد ومن خلفه تخطيط يعتمد دراسات دقيقة، والا فان الخطر في تخريب ما تبقى من العراق اقرب مما نتصوره.
* نشر المقال في العدد 654 من جريدة بهرا.
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه