د.عبدالخالق حسين
رحل عنا يوم الأحد 12/1/2020 في باريس، السياسي العراقي، والشخصية الوطنية المعروفة، والمثيرة للجدل والخلاف والاختلاف، الدكتور عزيز الحاج، عن عمر ناهز 94 عاماً، حيث كان الفقيد يعيش نحو خمسة عقود في العاصمة الفرنسية. وهو من الرعيل الأول لقيادات الحزب الشيوعي العراقي، قبل ان ينشق عنه، ومن ثم يعتزل العمل السياسي، ليتفرغ للنشاط الفكري، حيث ألف أكثر من ثلاثين كتاباً، في مختلف المجالات، مدونا مذكراته عن تاريخ الحزب، والحياة السياسية العراقية، أشهرها كتابه الموسوم (شهادة للتاريخ: أوراق في السيرة الذاتية السياسية) عام 2001، والذي قدمنا له مراجعة في حينه(1)، إضافة إلى مئات المقالات في الشأن العراقي وغيره، نشرها على موقع الحوار المتمدن(2)، وإيلاف (3)، وعشرات المواقع والصحف العراقية والعربية الأخرى.
والمعروف أنه ليس هناك سياسي عراقي لم يكن مثيراً للجدل والخلاف والاختلاف، ولكن الحاج فاقهم جميعاً في هذا المضمار، خاصة في دوره في شق الحزب الشيوعي العراقي عام 1967 عندما انقسم الحزب إلى جماعة اللجنة المركزية (الحزب الشيوعي العراقي الحالي)، وجناح آخر باسم جماعة (القيادة المركزية) بقيادة عزيز الحاج، الجناح الذي تبنى الكفاح المسلح في منطقة الأهوار، كاستنساخ للثورة الكوبية والتأثر بالجيفارية، التجربة التي اثبتت فشلها لأن لكل بلد ظروفه الخاصة.
نبذة مختصرة عن سيرته الذاتية (من أرشيفه على الحوار المتمدن)(2)
((ولد عزيز الحاج على حيدر في الكاظمية من أبوين عراقيين كرديين [ فيلييّن].
– أكمل دراسته العليا في كلية دار المعلمين العالية عام 1947 [ صارت كلية الآداب].
– انضم للحزب الشيوعي العراقي عام 1946 وصار من كوادره وكتابه. وسجن في نوفمبر 1948 بحكم السجن المؤبد. ومر بسجون مختلفة حتى ثورة 14 تموز 1958 .
– بعد الثورة أوكلت له مهمات تنظيمية وصار من الكتاب البارزين في الحزب الشيوعي. ورُقي لمركز مرشح اللجنة المركزية في ربيع 1959،
– أرسله الحزب لموسكو للدراسة، ثم لبراغ ، لتمثيل الحزب في المجلة الشيوعية الدولية.
– عاد للعراق سرا عام 1966 وانتخب عضوا في المكتب السياسي.
– في أيلول 67 انفصل عن اللجنة المركزية ومعه كوادر وقواعد شيوعية وراحوا يعملون باسم الحزب الشيوعي ـ القيادة المركزية حتى اعتقاله في شباط 1969،
– ترك العمل الحزبي بعد إطلاق سراحه في صيف 1969،
– في 1971 عين مندوبا للعراق في منظمة اليونسكو الدولية التربوية.
– بعد خروجه من الوظيفة انفصل كليا عن النظام وانصرف للكتابة والتأليف، وأصبح من الكتاب العراقيين الذين يدينون سلطة البعث، وكتب في ذلك عشرات المقالات الصحفية.
– ألف ونشر أكثر من ثلاثين كتابا، وآخر كتبه هو [ شهادة للتاريخ..] الصادر عام 2001 والذي يلخص فيه، ويقيّم سيرته السياسية بروح النقد الذاتي الصارم، ويعيد النظر في الكثير من مسلماته العقائدية السابقة من موقع ديمقراطي لبرالي.
– واصل الكتابة في الصحف العراقية والمواقع الألكترونية.))
*****
أول ما سمعت بعزيز الحاج، كان في السنوات الأولى من ثورة 14 تموز 1958 المجيدة، وكنت حينها تلميذاً في المتوسط، نتابع الأحداث والأخبار بحماس، وكان الصراع على أشده بين القوميين الناصريين والبعثيين من جهة، والوطنيين العراقيين (الشيوعيين والديمقراطيين) من جهة أخرى. فالقوميون رفعوا شعار الوحدة الاندماجية الفورية، بينما الوطنيون رفعوا شعار الاتحاد الفيدرالي. وكان الحاج أحد أنشط المساهمين في تلك السجالات، دفاعاً عن الجمهورية العراقية الفتية، حيث نُشرتْ مقالاته فيما بعد بكتابين (ثورتنا)، وكتاب آخر حول الوحدة العربية نسيت عنوانه.
والجدير بالذكر أنه لما استحوذ دعاة الوحدة الفورية في إنقلابهم الدموي الأسود في 8 شباط 1963، وما تبعه من إنقلابات عسكرية بعضهم على بعض، تنكروا للوحدة العربية، وحاربوها، بل ودمروا حتى التضامن العربي في أبسط مستوياته.
ولم يخطر ببالي حينها أني سألتقي يوماً بعزيز الحاح ونصبح أصدقاء. كما كنت أسمع عنه أواخر الستينات كقائد شيوعي ثوري، واتهم بخيانته لرفاقه، وهي تهمة فيها نظر سآتي إليه لاحقاً. ففي ربيع عام 1969 كنت بالخدمة العسكرية الإلزامية برتبة ملازم طبيب احتياط في مستشفى معسكر جلولاء، ولم أنس تلك المقابلة التلفزيونية التي أجريت معه، وأدارها محمد سعيد الصحاف، المدير العام لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون آنذاك، وقد شاهدنا المقابلة في النادي العسكري في جلولاء.
وبعد سنوات طويلة، وهجرتي إلى بريطانيا، وانغماسي بالنشاط السياسي المعارض للنظام البعثي الدكتاتوري، قرأت الكثير من مقالات الحاج التي كان ينشرها في أول الأمر على موقع إيلاف، ومن ثم على المواقع الأخرى ومنها الحوار المتمدن. وكنا نتواصل عن طريق المكالمات الهاتفية، و الرسائل الإلكترونية، ثم التقينا مرتين في بيت الصديق الدكتور نجم الدين غلام، في لندن، ومن ثم شاركنا في ندوة في لندن أيضاً، عام 2001 عن انقلاب 8 شباط 1963، ودور الأحزاب الوطنية في إفشال ثورة 14 تموز الوطنية الرائدة. كما زرته في باريس عام 2004.
الكتابة عن شخصية وطنية مثيرة للجدل مثل شخصية عزيز الحاج، يعني الكتابة عن جزء من تاريخ العراق السياسي الحديث. ولعل كتابه ((شهادة للتاريخ: أوراق في السيرة الذاتية السياسية))، يعتبر من أهم مؤلفاته، حيث ذكر فيه الكثير من النقد الذاتي. لذا أستطيع القول، وبقناعة كافية، أني فوجئت بتلك المذكرات، فلأول مرة أقرأ لكاتب سياسي ساهم في صنع الأحداث، وخاصة في عقدي الخمسينات والستينات وما رافقها من هزات عنيفة، يمارس نقداً ذاتياً لاذعاً وصارماً، ويحاسب نفسه عليها حساباً عسيراً، كاشفاً عن الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها، ودفع ثمنها هو وغيره. وقد ذهب الحاج في نقد الذات إلى أبعد من اللازم، بل إلى حد التقريع وجلد الذات.
يبدأ كتابه هذا بمقدمة يسميها (كلمة لا بد منها)، يشرح فيها الأسباب التي دعته لكتابة مذكراته، وهو في السبعينات من عمره، ومتى بدأ بكتابتها. ويقول أنه نشر بعضاً من مذكراته في الماضي ولكن في العقدين الماضيين حصلت عنده قناعات أدت إلى تغيير الكثير من تحليلاته ووجهات نظره. يعترف الحاج أنه لم يدَّعِ يوماً أنه كان ملاكاً، أو بطلاً خارقاً، أو صانع معجزات، بل أشار مراراً إلى أخطائه الكبيرة ومساوئ مواقف له، وتوقف لديها بروح النقد الذاتي بمنتهى الصرامة، من النادر أن يمارسه أي سياسي عراقي آخر.
وفي شهادته هذه يشرح الحاج التطورات الفكرية التي حصلت عنده والتي أدت إلى تغيير قناعاته من شيوعي متمسك بصرامة بأيديولوجية الماركسية-اللينينية، ناذراً حياته في النصف الأول منها لتحقيق أهدافه الآيديولوجية، وقضى منها عشر سنوات في سجون نقرة السلمان في عز شبابه، إلى الإيمان بالديمقراطية الليبرالية، والتعددية، والقبول بفن الممكن. ولتبرير هذا التغيير في المواقف، يستشهد الحاج بمقولة حكيمة للروائي الفرنسي الخالد فكتور هيجو: ” إنه لثناء باطل أن يقال عن رجل إن إعتقاده السياسي لم يتغيَّر منذ أربعين سنة… فهذا يعني أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير، والتعمق الفكري في الأحداث… إنه كمثل الثناء على الماء لركوده وعلى الشجرة لموتها…”.
وبمثل ما ينتقد الحاج ماضيه نقداً صارماً، يتمنى على الآخرين لو فعلوا مثله. ويقول إن التقييم المنصف والنزيه والعلمي للظواهر والأحداث والمواقف السياسية، هو الذي يعالج كل الجوانب ويزن الإيجابي والسلبي. وينطبق ذلك على تقييم دور الأحزاب والتيارات السياسية العراقية ورموزها من الشخصيات. وكما أن هناك من لا يرون من عزيز الحاج غير أخطائه، وعلاقاته السابقة بالنظام البعثي، فإن هناك في الوقت نفسه، من لا يرون في تاريخ الحركة الشيوعية العراقية غير أخطائها وتخبطاتها وانقساماتها. فهم ينظرون إلى النصف الفارغ من الكأس فقط، وأن الحركات والأحزاب الأخرى أيضاً ارتكبت أخطاء قاتلة دون أن يجرؤا على تقديم أي نقد ذاتي، لا بل ما زالوا يتشبثون بتلك المواقف الخاطئة ويدافعون عنها بحماس ويعتبرونها في أدبياتهم ومذكراتهم من الأعمال البطولية الخارقة في الوطنية والقومية مثل محاولتهم إغتيال الزعيم الوطني عبدالكريم قاسم، وإنقلاب 8 شباط 1963 وغيرهما من الأعمال التي أوصلت العراق إلى ما عليه الآن. وبذلك يؤكد الحاج أن تبعة المآسي العراقية الراهنة تمتد جذورها إلى أخطائنا جميعاً منذ ثورة 14 تموز 1958.
ويختتم المؤلف في تعريف كتابه بقوله: “إن دراسة أخطاء أمس هي، لخدمة التوثيق التاريخي، ولغرض الإستعبار، وتوظيف دروس الإخفاقات والكبوات لصالح الحركة الوطنية العراقية. وإن شهادتي الحالية شهادة للتاريخ ومن منا لا يقف أمام التاريخ؟!”.
لذلك، فإن شهادة الحاج ليست سيرة ذاتية عن تاريخ حياته الخاصة والعامة فحسب، وإنما هي عبارة عن رحلة عبر تاريخ العراق السياسي الحديث بشكل عام، مبيناً دوره في أحداثها، مسلطاً الضوء على أهم منعطفاتها. وبذلك فهي مراجعة سريعة واعية، وقراءة نقدية لهذا التاريخ والأحداث الكبرى التي غيرت مجرى تاريخ العراق.
هل حقاً خان الحاج رفاقه؟
يقول الحاج في كتابه الآنف الذكر: ((يقولون بإلحاح “أكتب سيرتك”!.. ولكني كتبت الكثير منها في ثلاثة أجزاء وبقي مما سأوفيه حقه هنا. إن الطيبين يلحون من منطلق أن التجربة ملك التاريخ لا ملكي الشخصي، ويخاف البعض أن أموت قبل أن أكشف أسراراً “خطيرة” لم أكشفها كما يتصورون وللإلحاح مقاصد ومآرب..
((كيف أكتب ” تلك المشكلة!… إن المتعسفين يريدون إعلاني “لخيانتي” المزعومة. ولكن “خيانة” من! فالولاء للشعب هو المعيار والمحك، والتضحية من أجل الشعب هي الميزان. فكم من هؤلاء المغرضين من ضحى أكثر مما ضحيت أنا وعائلتي؟ ولو كانت الحقيقة والإنصاف لما بنى البعض أحكامهم على إشاعات وحكايات مفبركة حتى كأن الحاج مسؤول عن كوارث العراق وشيطان الشياطين!.. وكل يوم أسمع حكايات جديدة!!!
((هل كنت “خائناً”؟ …. كلا إذ بقيت مخلصاً لشعبي رغم العثرات، وإن الانتماء إلى الشعب هو الانتماء الأكبر الذي يعلو على الحزبيات وكافة الأيديولوجيات. هل بعتُ رفاقي؟. كلا، بل دافعت عنهم في المعتقل بكل ما استطيع. هل الندوة التلفزيونية كانت سقطة سياسية كبيرة” أقول نعم، ولكن لها ظروفها وأكبر خاسر فيها كنت أنا بالذات أولاً، بينما أوقف التعذيب بسببها إذ تم إطلاق سراح العشرات من المناضلين المهددين بالموت العاجل أو الآجل. إن موقفي كان بالمعنى الحزبي “انهيار”، ولكن ليس جبن وإنما عن حساب وتأمل في العام والخاص والشخصي معاً، وضمير مرتاح تماماً لأن النتيجة كانت صون حياة عشرات المناضلين وأنا منهم. ولأنني لم أتسبب لأمي وأهلي بفواجع جديدة رغم الضغوط الدعائية عليهم بعد الندوة. إن ضميري مرتاح إذ وباستثناء حالة ملتبسة واحدة سوف أتطرق إليها فإنني لم أدلِ عند اعتقالي باعترافات على رفاقي والتنظيمات، بل ولم أُسأل عن ذالك لأن جميع أسرارنا كانت معروفة ومكشوفة بعد أن أعتقل العشرات ومنهم الأكثرية الساحقة من الرفاق القياديين، وكنت ضمن أواخر المعتقلين القياديين وذلك يوم 22 فبراير/شباط 1969. ثم إني كنت منذ الأول لا أعرف إلا أسماء عدد قليل من الرفاق وهم من سبق لي التعرف عليهم في السجون، أو الدول الاشتراكية. وأكثر من ذلك فقد عرفتُ الأسماء الحقيقية لعدد من رفاق القيادة بعد اعتقالي بمدة ومن أحد ضباط التحقيق. وقد اضطررتُ مرتبكاً إلى إيراد عدد منها في الندوة، وكانت لمعتقلين معي. )) انتهى.
يقول المثل العربي: “إذا وقع الجمل كثرت سكاكينه”. فمهما كان موقفنا من الراحل عزيز الحاج، فكل ما فعله كان بدوافع وطنية، وحتى اعترافاته تحت التعذيب كان بعد أن عرضوا عليه اعترافات رفاقه، وأرادوا منه مجرد موقفه منها، ومن أجل أن ينقذ حياتهم وحياته من الموت تحت التعذيب. وكما قال السيد المسيح: (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر).
وحسب معرفتي بالصديق الراحل أنه كان في منتهى الإنسانية والطيبة والاخلاق الرفيعة، وفي هذا الخصوص يقول الروائي الروسي العظيم، ليو توليستوي: “إذا أردت أن تعرف قلب إنسان، فأنظر كيف يعامل كلبه”. لم يكن للحاج كلب، بل كان له قط اسمه (ريمي). وقد عامل ريمي كمعاملة الأب الحنون لطفله. ولما مات ريمي، دفنه في مقبرة الحيوانات في باريس، ونعاه في كتيب، وكان يزور قبره بانتظام. وقد ركزت الكاتبة العراقية القديرة شميم رسام في نعيها للحاج على علاقته بريمي(4).
عزاؤنا الحار لذويه وأصدقائه وقرائه ولأنفسنا… ولفقيدنا الغالي الذكر الطيب.