قراءة / إبراهيم برخو
حين نسمع عن المسرح أو عن مسرحية ما، أول ما يتبادر الى أذهاننا تلك الخشبة المرتفعة التي يعتليها بعض الأشخاص ليقدموا عرضا ما والتي غابت عنا لفترة طويلة ، وما أجبرني للكتابة عن المسرح هو التراجع الواضح في المسرح العراقي والذي شهد في العقود الماضية حضورا واضحا وأهتماما من قبل المؤسسات الثقافية العراقية ‘ أما اليوم ومع كل الأسف، فلم يعد هناك إهتماما ولا جمهوريهتم بشأن المسرح لأن ظروف البلد السياسية التي ابرز إنعكاستها كانت على عموم الثقافة العراقية ومنها المسرح.
فقد أرتأيت أن انقل مشاهد من مسرحية عالمية وهي ( الأم الشجاعة وأولآدها ) للكاتب الألماني برتولد بريخت والتي حازت على أهتمام الكثير من الأدباء والنقاد، وقد يسأل أحدكم عن سبب أختياري لهذه المسرحية في هذا الوقت بالذات، عندها فالأجابة هي ، لأن ظروف الحرب ونتائجها الوخيمة على الشعوب كانت في غاية القسوة ‘ بحيث تجبر الأنسان في التخلي عن الكثير من مفاهيم الأنسانية، بحيث يلتجأ البعض من الناس الى أستخدام الحيلة لشق طريق الحياة، فقد أختصر المؤلف الصراع بأسرة فقيرة متكونة من أم وولدان وبنت صماء والتي دارت في السويد وبولندا وألمانيا .حيث كتبها الكاتب المسرحي والشاعر برتولد بريخت عام 1939 بعد شهر من دخول هتلر لبولندا،مقتبسا اسم المسرحية من رواية الكاتب الألماني غريميسهاوزن من القرن السابع عشر ابان حرب الثلاثين عاما بين عام 1624 الى عام 1636 ، المراة الشجاعة واولأدها مسرحية تحكي قصة أمراة ماكرة تعرف كيف تستغل الحرب من أجل الكسب المادي كي تعيش معتمدة بذلك على إستمرار الحرب كما يفعل سماسرة الحرب في يومنا هذا ،تتألف المسرحية من أثنا عشر مشهدا تمثل الأثنا عشر سنة من زمن الحرب والتي جاءت كل المشاهد بصورة بشعة في التعامل ، بحيث تجعل المشاهد للمسرحية أن لا يتعاطف مع اي من شخوص المسرحية ، وذلك بسبب بشاعة التعامل والبراكماتية والمصلحة الفوقية على المبادئ . فقد أكدت المرأة الشجاعة مدى حبها لعملها في زمن الحرب وهي تجر عربتها تبيع الطعام والخمور للعساكر ومعها اولادها الثلاثة يعاونونها في البيع، ففي المشهد الأول يظهر الرقيب مناديا لحد أبنائها للنجنيد بصفوف الجيش لمقاتلة الأعداء ، حينها تستنفر الأم قوتها رافضة طلب الرقيب قائلة: “حتما سيقتل أبني في الحرب ” ! كانت الأم الشجاعة تتنبأ بمصير أسود لأولادها ، لذلك كانت تأبى أن تفارقهم .وفيما تتجادل الأم مع الرقيب على سعر حزام للخصر، يأخذ الرقيب أبنها آيليف للتجنيد، بعدها تحس الأم الشجاعة بأنها أستغفلت وتم أخذ إبنها للتجنيد ، فأنبئها الرقيب قائلا ” إن ما تكسبه من الحرب ، لا بد أن تدفع ثمنه لاحقا ” .وهكذا تتوالى الأحداث في المشهد الثاني بعد مرور عامين وتلتقي بأبنها موبخة أياه لتعريض نفسة للمخاطرة في قتل القرويين وذبح مواشيهم تلبية لأمر الجنرال.وما بين مد وجزر الحرب بين الجيشين الكاثوليكي والبروتستانتي تنتقل الأم مع عربتها هنا وهناك باحثة عن صفقة مربحة مع الجنود، وتستمر الأحداث حيث يقتل الأبناء وتغتصب أبنتها الخرساء والأم ماضية في تحقيق الأرباح غير مبالية بما حدث لها من فقدان لأولادها ، وفي مشهد مؤثر للغاية، حيث تقرع إبنتها الخرساء الطبل بشدة في الليل لأيقاظ أبناء المدينة من الهجوم على المدينة من قبل العساكر وتفشل هجومهم على القرويين، حينها يتوجه اليها الجنود ويفرغون نيران بنادقهم بجسدها ، ويردونها قتيلة ، تغضب الأم للوهلة الأولى ولكن تجار الحروب لا دين لهم ، وتبقى الأم مع بضاعتها متجولة في سوح المعارك دون خوف يردها عن العمل. والتي غيرت حتى طائفتها في ثانية واحدة من أجل النجاة من بين أيدي العساكر كي تستمر تجارتها. وفي نهاية المسرحية تتمنى الأم الشجاعة في سرها ،أن لا تنتهي الحرب ، وتستمر لوقت أطول لتستمر في تجارتها وارباحها .وتشتري بضاعة أخرى وكلها أمل في أستمرار الحرب، وفجأة تتوقف الحرب ،لتخسر التجارة كلها وخسارة نفسها وعائلتها من جراء الحرب اللعينة.
من هنا يبدو لنا جميعا ونحن نقرأ هذه المسرحية العالمية بان الحروب ليست إلا صفقات بين الكبار ، حيث لا أخلاق للقادة واسياد البلد ، تموت الشعوب جوعى وعطشى وهم يتمايلون مترنحين سكارى في معاقرة الخمر والميسر على صدى أنغام مومس تغني وترقص بحركات سخيفة ، وأبناء الشعوب تموت في معركة ليست معركتهم ، تلك هي نهاية الشعوب المهينة التي تسلم أمرها للقادة الذين باعوا الوطن والضمير ،ويظل الشعب هو البطل وهو الضحية في ذات الوقت في مسرحية لا تنتهي إلا بنهاية الأوغاد .
إبراهيم برخو
تورنتو في 16 آذار 2024