زوعا اورغ/ وكالات
نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرها المهم عن الكليبتوقراطية، او حكم اللصوص في العراق بعد ترجمته الى اللغة العربية، حيث نشر موقع “ديجيتال ميديا ان ار تي” النص الكامل للتقرير، فأنه يعيد التأكيد على ان النشر يأتي في باب حق المواطن في الحصول على المعلومة، والتزاما منا برسالتنا الاعلامية…
وعلى مستوى واسع تم تداول مقتطفات من التقرير المهم الذي نشره روبرت ف وورث في (29 تموز 2020) بعد أن أعده ميدانيا خلال إقامته في بغداد، كشف خلاله عن معلومات غاية في الخطورة موثقة بالاسماء والارقام وبشهادات شهود ومساهمين في الحدث فضلا عن متورطين كبار، كما يكشف التقرير تلوث أيادي جهات واحزاب وفصائل في عمليات نهب منظمة لموارد الدولة ناهيك عن الاساليب المافيوية.
يقول التقرير ان العراق يعد حكاية تحذيرية لباقي العالم. حكاية تلخص كيف يمكن أن يتحول أبسط أنواع الفساد بسرعة إلى آفة وكيف يصعب إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. لن يستغرق الأمر طويلاً حتى يغطي غبار الزمن هؤلاء المشتركين في شبكات الفساد، كما حدث في أفغانستان والصومال وفنزويلا. يقول ريتشارد ميسك الذي أمضى عقوداً يدرس هذا الموضوع: إنه يصبح نظام مستدام ذاتيا. لا يمكن التدخل في قطاع واحد فقط لأن جميع القطاعات مرتبطة ببعضها البعض، لذا ينبغي تغيير عدة مؤسسات في وقت واحد.
وادناه نص التقرير:
داخل نظام حكم اللصوص البيروقراطي في العراق
بقلم :روبرت ف وورث
نيويورك تايمز
الفساد، مثله مثل العنف، أضحى سبباً لاستحالة العيش في العراق. فقد ساعد في تأجيج صعود تنظيم داعش، وأميركا تقدم على الأقل مبلغ عشرة مليارات دولار بالعملة الصعبة سنويا يتم استخدامها لتغذية الفساد
في مطلع شهر أكتوبر الماضي، وبينما كان يعمل في مكتبه ببغداد، تلقى رجل الأعمال حسين اللقيس مكالمة هاتفية من رقم مجهول. قال المتصل “نحن بحاجة للتحدث”. كان صوت الرجل أجشاً وكانت لهجته تهديدية. طلب من اللقيس اللقاء لكنه رفض أن يفصح عن اسمه.
تردد اللقيس وأبدى اعتراضه، وبعدها انتهت المكالمة. كاد أن ينسى هذا الحوار لكن بعد دقائق قليلة اتصل به أحد زملائه لينقل إليه أخباراً مزعجة؛ المتصل الغامض ينتمي إلى كتائب حزب الله، وهي ميليشيا عراقية ترتبط ارتباطا وثيقاً بالحرس الثوري الإيراني، وقد كان لدى المتصل عرضاً يود مناقشته.
وعندما اتصل رجل الميليشيا مرة أخرى، وافق اللقيس على مقابلته بعد تردد، وقد اصطحب مجموعة من رفاقه وتوجهوا إلى منزل في شارع سعدون وسط العاصمة بغداد، ووصلوا بحلول المغرب. تم اقتياد اللقيس إلى مكتب معتم داخل المنزل، وتم تقديمه لرجل صغير البنية أصلع الرأس.
دخل الرجل في الموضوع مباشرة قائلاً “ يجب أن تعمل معنا، ولا يوجد لديك خيار آخر. يمكنك أن تبقي على كادر الموظفين الخاص بك لكن يجب أن تفعل ما نقول”، موضحاً أن كتائب حزب الله ستحصل على 20 بالمئة من إيرادات اللقيس الإجمالية أي ما يشكل 50 بالمئة من أرباحه.
رفض اللقيس هذا الطلب. شركته -التي تدعى بالم جت- تمتلك عقداً حكومياً مدته خمس سنوات لإدارة صالة كبار الزوار في مطار بغداد الدولي، بالإضافة إلى أحد الفنادق القريبة من المطار. وتعمل الشركة أيضا بشكل منتظم مع بعض الشركات الغربية لتصنيع الطائرات مثل لوكهيد مارتن. لذا لم يكن من الوارد أن يعقد اللقيس أية صفقات مع مجموعة مثل كتائب حزب الله المصنفة من قبل الحكومة الأمريكية كمنظمة إرهابية أجنبية (كما هو الحال أيضاً مع جماعة حزب الله اللبنانية). قال الرجل الأصلع إنه سيقوم بمصادرة كل ما يملك اللقيس في بغداد في حال رفض هذا الطلب. نظر إليه اللقيس مندهشاً وقال: أنا مستثمر..ثمة قانون يحميني! فرد عليه الرجل الأصلع: نحن القانون. ثم طلب من اللقيس أن يعطيه رداً بحلول ظهر اليوم التالي.
وقفت خمس سيارات دفع رباعي من نوع شيفروليه ظهر اليوم التالي خارج صالة كبار الزوار، ثم ترجل منها إثنا عشر رجلاً يرتدون لباس ميليشيا أسود اللون، مدججين بالأسلحة. عثروا على اللقيس جالساً في مقهى فندق المطار وهو يدخن ويحتسي القهوة.كان اللقيس يجري مكالمات هاتفية منذ الليلة الماضية مع جميع معارفه في الحكومة ومع مدراء الأقسام في المطار. لم يعاود الاتصال به أي أحد، على نحو بدا وكأن الجميع قد تم تهديده أو ربما رشوته. أخذ رجال الميليشيا هاتف اللقيس وطلبوا منه أن يوقع وثيقة يتخلى فيها عن العقد المبرم. حاول أن يماطل لبرهة من الزمن، وفي الأثناء تسلل أحد موظفيه إلى الخارج ليلتقط صورة لسيارات رجال الميليشيا، لكنهم أمسكوا به وحطموا هاتفه وضربوه.
كان اللقيس، وهو مواطن لبناني، قد بدء العمل في العراق منذ عام 2011، وكان يعلم بأن البلد مثقل بالجريمة والفساد لكنه كان يعتقد بأن المطار الذي يعج بمئات من مسؤولي الأمن والهجرة، له وضع مختلف.
أخبرني اللقيس لاحقاً أنه انتظر لعشرين دقيقة لعل أحداً من رجال الشرطة يأتي، لكن في النهاية مشى إلى صالة المغادرين ركب في رحلة متوجهة إلى دبي. وبعد عدة أيام، عينت كتائب حزب الله متعاقداً آخر بدلاً عن اللقيس الذي لم يعد إلى العراق منذ ذلك الحين.
حصلت هذه المداهمة في المطار بعد أربعة أيام من اندلاع الاحتجاجات المناهضة للحكومة العراقية حيث تدفق الآلاف من المتظاهرين الشباب إلى شوارع بغداد والمدن الأخرى هاتفين بشعارهم الشهير والمثير للمشاعر “نريد وطناً”. وسرعان ما سيطر المتظاهرون على ساحة التحرير في قلب بغداد ونصبوا الخيم وبدؤوا المواجهات مع الشرطة. وعلى الرغم من أن الفوضى تسببت بتعطيل العمل التجاري والحكومي، إلا أنها قد كسبت تعاطف العرب في المنطقة، وكانت بمثابة الفتيل الذي أشعل حركة الاحتجاجات في لبنان. بالنسبة لهذه الجموع المتظاهرة، الجماعات مثل كتائب حزب الله ليسوا فقط عملاء لإيران بالوكالة، بل هم أيضاً الوجه الجديد لحكم اللصوص البيروقراطي التي اكتسبت ثروتها على حساب شباب العراق الذين ازدادت أعدادهم فقراً وبطالة. وفي الوقت عينه بات بعض قادة الميليشيات من بين أغنى رجال العراق، مشهورين بشرائهم المطاعم والأندية الليلية الفاخرة والمزارع الوافرة على ضفاف نهر دجلة.
إن من دعم ومكن هذه الميليشيات هي الطبقة السياسية العراقية الجديدة التي لا تسعى إلا إلى الثراء. لقد قامت هذه العصابات المتعددة الطوائف لسنوات عديدة بممارسة الاحتيال على كافة المستويات ومن ضمنها السيطرة المستمرة على نقاط التفتيش، والاحتيال المصرفي، والتحايل على نظام الرواتب الحكومي. عندما تولى عادل عبد المهدي الحكم في عام 2018، وسط ترحيب به كمصلح محتمل، حاول ضم الميليشيات للدولة، لكنهم فاقوه براعة وسيطروا عليه. وقد تضمنت حكومته أشخاصاً لهم ارتباطات بأحد أسوأ شبكات الكسب غير المشروع التي ابتلت البلاد بها.
إن الولايات المتحدة متورطة بعمق في كل هذا، ليس فقط بسبب غزوها المتتالي الذي حطم البلد واقتصاده، لكنها تقوم أيضاً بتقديم الأموال التي تساعد على بقاء الوضع على ما هو عليه، بينما يقوم المسؤولون الأمريكيون بغض النظر عما يقوم به حلفاؤهم العراقيون لخدمة مصالحهم الشخصية. فلا يزال البنك الفيدرالي في نيويورك يزود العراق بما لا يقل عن 10مليارات دولار سنوياً من مبيعات النفط بالعملة الصعبة. وتمرر كثير من هذه الأموال إلى البنوك التجارية تحت ذريعة استخدامها لعمليات الاستيراد، ضمن مخطط تمت السيطرة عليه منذ وقت طويل من قبل عصابات غسيل الأموال. وفي الوقت نفسه تقوم الولايات المتحدة بتطبيق العقوبات على إيران وسوريا اللتين يتشارك معهما العراق بحدود سهلة الاختراق، وهو ما يشكل بيئة مثالية للفساد.
قد تكون إدارة الرئيس دونالد ترامب قد صدمت الميليشيات العراقية باغتيالها غير المتوقع لرئيس الاستخبارات الإيراني ذي النفوذ القوي قاسم سليماني أثناء تواجده في مطار بغداد في كانون الثاني من عام 2020. لكن حلفاء إيران مثل كتائب حزب الله لا يبدون قلقين، فهم يعلمون أن الرئيس ترامب لا يحبذ خوض حرب خصوصاً في ظل عجز الميزانية الحكومية المتزايد الذي تسببت به جائحة كورونا. لذا فإن أهم أولوياتهم هي الحفاظ على نظام عراقي يكون فيه كل شيء قابل للبيع.
لقد دفعت جائحة كورونا العراق إلى حافة أزمة وجودية إذ أدى انهيار الطلب العالمي على النفط إلى انخفاض سعره وبالتالي صعق هذا البلد الذي يعتمد اقتصاده الكلي تقريباً على عائدات النفط. إلا أن ذلك قد يقدم فرصة غير مسبوقة لرئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي ليواجه أكبر معضلة في البلد. يمكن أن يعتبر الفساد الآن مسألة حياة أو موت: ينبغي للعراق أن يختار بين إطعام شعبه أو إغناء لصوصه. ولقد وعد الكاظمي أن يواجه هذا التحدي، لكنه قد لا ينجح مالم تستغل الولايات المتحدة هذه الفرصة لإصلاح بعض الدمار الذي تسببت به في العراق ومشاركة المتظاهرين أهدافهم المتمثلة في إعادة بناء وطنهم على أسس جديدة.
طالما كان الفساد في سجل الدبلوماسية الأمريكية يحمل معنى مبهم: فهو مستهجن في العلن لكن يتم غض النظر عنه في الواقع، بل ويعد شراً لا بد منه. إذ للولايات المتحدة تاريخ طويل في دعم الكليبتوقراطيين (الحكام اللصوص) الذين طالما كانوا بجانب أي منافس سياسي استراتيجي. إلا أن ثمن هذه الصفقات الذي عادة ما يكون بالدم، قد أدى إلى إعادة تقييم الأوضاع. “ الفساد ليس معضلة سياسية أساسية فحسب، بل هو أكبر مسبب للمشاكل الأمنية التي يتوجب علينا مواجهتها” وفق ما أخبرتني به سارا تشايس في شهر أيار. يوثق كتاب تشايس الذي تم نشره عام 2015 تحت عنوان “لصوص الدولة” التأثير المدمر للفساد في عدة دول في إفريقيا وآسيا.
لقد استندت في كتابها على تجربتها في أفغانستان حيث عاشت هناك لسنوات قبل أن تصبح مستشارة للبنتاغون ورأت كيف أن الابتزاز الكبير الذي تمارسه الحكومة المدعومة أمريكياً قد دفع الناس ليرتموا في أحضان طالبان.
ويمكن اعتبار العراق درساً ومثالاً واضحاً من هذه الناحية، حيث كان الفساد في حقبة الثمانينات نادراً، وكان معظم وزراء نظام صدام الشمولي نزيهين ومراقبين بشكل جيد. حدث التحول خلال التسعينات عندما فرضت الأمم المتحدة العقوبات عقب غزو صدام للكويت. فخلال فترة سبع سنوات انخفض دخل الفرد الوسطي إلى 450 دولارا بعد أن كان 3500 دولار. ومع انخفاض المرتبات المعيشية، لم يتمكن المسؤولون الحكوميون من العيش دون تلقي الرشاوي والتي أصبحت عملة تداول يومية. وقد تأزم الموقف بعد عام 2003 حيث بدأ الضباط الأمريكيون بتسليم رزم الدولارات من فئة 100 محاولين خلق صداقات وتحفيز الاقتصاد العراقي. وقد كانت نواياهم حسنة في تلك الفترة إلا أن تسرعهم كان كارثياً. فقد اصطفت مجموعة من الانتهازيين ومن ضمنهم العراقيون العائدون من الخارج من أجل الحصول على العقود الحكومية الكبيرة. عندها اختفت المليارات، وازدادت السرقات بعد ارتفاع أسعار النفط في عام 2008، وكان المسؤول عن ذلك هي الشبكة المسيطرة التي يدعمها نوري المالكي.
وبعد أن سيطر تنظيم داعش على شمال غرب العراق عام 2014، هب أفراد الجيش البالغ عدد أفراده 350 ألف عنصر للدفاع، وهو أكثر عدداً من الكتائب الجهادية. ولكن في الحقيقة كان الجيش مسلوب القوة بسبب اختلاق “الجنود الأشباح” غير الموجودين فعلياً، ما أتاح للقادة اختلاس مئات بل آلاف الرواتب. وقد دمرت هذه التصرفات المعنويات داخل الجيش واستشاط المدنيون في الموصل غضباً وعلى وجه الخصوص هؤلاء الذين أصبحوا أكثر تقبلاً لتنظيم داعش فقط لهذا السبب. ووجدت دراسة قامت بها مبادرة هارفرد الإنسانية أن أبناء الموصل يعتقدون بأن الفساد كان العامل الأساسي في ظهور تنظيم داعش.
إن عملية احتساب ما تم سرقته من العراق ليست بالأمر اليسير، فقد أٌبرمت الصفقات بشكل نقدي وأصبح من الصعب الحصول على الوثائق التي تثبتها، كما أن الإحصاءات الحكومية عادة ما تكون غير دقيقة. ومع ذلك فإن المعلومات المتاحة تشير إلى أنه تم نهب ثروات العراق بشكل غير قانوني لخارج البلاد أكثر من أي دولة أخرى. هذا ما بينه أحد رجال الدولة الكبار وهو صاحب خبرة طويلة بالأمور المالية أنه قد جمع تقييمات سرية لصالح المجلس الأطلسي، وهي مؤسسة بحثية أمريكية، بناء على أحاديثه مع مصرفيين ومحققين ومصادر في عدد من الدول الأجنبية. فقد استنتج بأن مبالغ تتراوح من ١٢٥ الى ١٥٠ مليار دولار أمريكي تتواجد حالياً بين أيدي عراقيين في الخارج، وأن هؤلاء حصلوا على معظم هذه الأموال بطرق غير قانونية. وتشير بعض التقديرات إلى وصول هذا المبلغ إلى 300 مليار دولار. وقد أشار إلى استثمار ما يقارب 10 مليار دولار من الأموال المسروقة في عقارات في لندن. كما يتعدى التقدير الكامل لهذه الأموال، هذا الجانب المالي ليشمل الضرر الحاصل للإرث الثقافي والمجتمعي العراقي، وهو موضوع غالباً ما حدثني عنه العراقيون كبار السن بنبرة حزن عميقة عندما كنت أعيش هناك.
بالنسبة لغير العراقيين، قد تبدو الحياة السياسية العراقية مثل حرب العصابات، لكنها في معظم الأوقات تتم تحت غطاء هذا الصراع سرقات بمنتهى الهدوء. ففي كل وزارة حكومية يكمن الفساد في اتفاقيات غير مكتوبة مع أحد الفصائل. الصدريون يملكون وزارة الصحة ومنظمة بدر طالما سيطرت على الداخلية بينما يسيطر تيار الحكمة على النفط. وعادة ما يواجه بعض القادمين الجدد صعوبة في التأقلم مع هذه الأوضاع. إذ أن أحد الوزراء التكنوقراط السابقين ممن أمضوا عقود في الخارج قد اكتشف حين تسلم منصبه أن الوزارة تتعاقد لشراء لقاحات بقيمة 92 مليون دولار، لكنه وجد طريقة أخرى لشراء ذات اللقاح بقيمة 15 مليون دولار. وقد أخبرني قائلاً “عندما قمت بذلك، تم شن حملة ضدي.” لقد كان يحاول أن يسد الفجوة بين ثروة العراق النفطية والنظام الصحي المتهالك، بينما كان معارضوه مهتمين بمصالحهم الحزبية فقط. ووجد الوزير في النهاية أن هاتين الفلسفتين لا يمكنهما التماشي معاً، لذا قام بالاستقالة من منصبه. (مثل معظم الذين تحدثت إليهم في هذا المقال فقد أخبرني بأنه يدلي بهذه المعلومات شريطة ألا أذكر اسمه. يعتبر الفساد في العراق هو السمة الجديدة الثالثة للسياسة العراقية. التحدث عنه في العراق يعرضك أنت أو أفراد عائلتك للقتل)
إن الزعماء السياسيين الذين يسيطرون على هذه العملية معروفون. فبعضهم حلفاء لأمريكا مثل عائلتي البرزاني والطالباني الذين سيطروا على عقود هذه المنطقة ومصرفها المركزي حتى أصبحوا فاحشي الثراء. وهناك المالكي وحلفائه الذين لايزالون يسيطرون على المشهد السياسي، ومقتدى الصدر رجل الدين الشيعي المتقلب المزاج، الذي يعد أيضاً عراباً آخراً يشتهر أتباعه بطلب الرشاوى. كان ينبغي معالجة النظام عام 2014 عندما كادت داعش أن تسيطر على البلد. ولكن بدلاً من هذا كانت النتيجة ظهور نوع جديد من الطفيليات: الميليشيات التي ساعدت في هزيمة داعش والتي تعرف بشكل عام بالحشد الشعبي، وهي اتحاد فضفاض للجماعات المسلحة التي كان بعض منها قائما منذ عقود. ففي عام 2016 قام رئيس الوزراء حيدر العبادي بالاعتراف بهم كجزء من القوات الأمنية وهم الآن يتسلمون رواتب منتظمة كباقي أجهزة الجيش والأمن.أحد اقوى هذه الفصائل هي كتائب حزب الله المتهمة بشن هجوم على قاعدة جوية عراقية في كانون الأول والتي قتلت متعاقداً أمريكياً وأدت بعد أسبوع إلى اغتيال سليماني الذي يعد الراعي الأكبر لها. وبالرغم من أنها ذائعة الصيت إلا أنها محاطة بالغموض. إذ يقول مايكل نايتس المحلل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والذي تعقب هذه الجماعة منذ تأسيسها: نكاد لا نعرف شيئا عن قيادتها. إنها أشبه بالماسونية. إذ يمكن لأحدهم إن ينتمي لها وأن يكون في حركة أخرى في نفس الوقت.
لقد بنت لنفسها إمبراطورية اقتصادية من خلال اقتحامها في أعمال تجارية مشروعة وعقود حكومية.
من أقل الأمور المعروفة والخطيرة التي قامت بها هذه الميليشيا هي سيطرتها التدريجية على مطار بغداد. بدأ ذلك قبل سنوات عندما قامت كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق المدعومة أيضاً من إيران بتعيين موظفين مواليين لهم في المطار، وفقا لما أفاد به مسؤول رفيع هناك. وتمكنوا أيضاً من تعيين الموظفين في شركة G4S وهي شركة بريطانية لطالما تم التعاقد معها لإدارة أمن المطار (لم تقم الشركة بالتعليق على هذا الموضوع). ونتيجة لذلك لدى هاتين الميليشيتين إمكانية الوصول إلى كاميرات المراقبة في المطار فضلاً عن الوصول إلى طريق يدعى بالكيلومتر واحد والذي يربط المدارج بمحيط المطار متجاوزين بذلك الحواجز الأمنية، حسبما أخبرني ذلك المسؤول. (تم قصف قاسم سليماني وموكبه من قبل طائرة بدون طيار أمريكية في كانون الثاني الماضي عندما كانوا على هذا الطريق). وقد باتت نشاطات هذه المليشيات أكثر عدائية منذ سنة حسبما ذكر المسؤول، فقد قام منتسبوها بتهديد مدير سلطة الطيران المدني وأجبروه على تعيين نائب له من الموالين لهم. وفي أواخر شهر تشرين الأول حصلت إحدى الشركات التابعة لكتائب حزب الله على عقد لمدة 12 سنة في مطاري بغداد والبصرة بقيمة ملايين الدولارات بالسنة الواحدة على الرغم من أن تلك الشركة المسماة بالخليج لم تتواجد لأكثر من شهرين في ذلك الوقت، ولم تملك التراخيص اللازمة، كما أن مؤسسها كان قد منع من العمل بالمطار. لقد أوقف العقد منذ ذلك الحين لكن الشركة التي استولت على صالة كبار الزوار والفندق من حسين اللقيس مازالت في مكانها.
إن مطار بغداد ما هو إلا أحد المنافذ الاقتصادية التي تسيطر عليها الميليشيات الآن، كما استخدموا ذريعة داعش ليكون لهم مقرات على معظم حدود البلاد، فقد قاموا باستغلال تهديد داعش لتثبيت أنفسهم في معظم الحدود البرية. وسيطرت الميليشيات على التجارة من خلال الموانئ البحرية في الجنوب لأكثر من عقد من الزمن، وفي الواقع فإن الميليشيات تقوم بدور دولة رديفة في الظل حيث تفرض على المستوردين أجوراً أعلى من أجل تسريع عمليات إيصال البضائع. ولديهم لجان اقتصادية ومكاتب في بغداد يمكن للشركات الخاصة أن تعقد معهم الصفقات التي تتجاوز القنوات القانونية للبلد. فعلى سبيل المثال، أخبرني مسؤول في المطار أنه إذا قام باستيراد 100سيارة من دبي فسيستغرق التخليص الجمركي القانوني شهرين، لكن إذا ما دفع لكتائب حزب الله 10 إلى 15 ألف دولار فإن هذه العملية ستستغرق يومين فقط.
إن المصدر الرئيسي للعملة النقدية التي ساهمت في انزلاق العراق نحو حكم اللصوص البيروقراطي هو البنك الاحتياطي الفيدرالي الواقع في شرق راذيرفورد بولاية نيوجيرسي حيث يتم حراسته بشدة. ففي كل شهر تقريبا تأتي شاحنة معبأة بأكثر من 10 طن من العملة الامريكية تبلغ قيمتها 1 من إلى 2مليار دولار أمريكي. ويتم نقل الأموال لاحقاً إلى قاعدة جوية ومن ثم إلى بغداد. تعود هذه المبالغ إلى الحكومة العراقية كريع لبيع النفط عبر حساب مصرفي لدى بنك نيويورك الفيدرالي. إن هذا الاتفاق غير الاعتيادي ما هو إلا أحد تبعات الاحتلال الأمريكي عندما سيطرت مباشرة على الحكومة العراقية ومصادر تمويلها. وقد بقي هذا الوضع كما هو عليه لأنه مناسب للطرفين، إذ يحصل العراقيون على الدولار بشكل امتيازي بينما تبقى الولايات المتحدة مهيمنة على اقتصاد العراق. إن شحنات الدولار التي ترسل على نحو دوري (وهي تشكل جزءاً صغيراً من العائدات النفطية الإجمالية للبلد) تلبي احتياجات مكاتب تحويل العملات العراقية والمستوردين الذين يحتاجون الى العملة الصعبة. ولكن من الناحية العملية فقد ذهبت الكثير من هذه المبالغ الى أيادي العاملين بغسيل الأموال والجماعات الإرهابية والحرس الثوري الإيراني، ويعود ذلك إلى إجراء خاص لدى البنك المركزي لا يعرفه إلا قلة وهو ما يسمى بمزاد الدولار.
يعرف مزاد الدولار “بنظام الصرف الصحي للفساد العراقي”، لكن قلما كُتب عن آليات عمله الداخلية. إن مخططات التزوير التي تحوم حوله طالما أوقدت الحرب الأهلية في سوريا بما فيها الحرب مع داعش. لقد بذلت وزارة الخزانة الأمريكية ما في وسعها لإبعاد مزاد الدولار عن أيدي داعش وإيران لكنها غالباً ما تغاضت عن الأنواع الأخرى من غسيل الأموال. وطالما وجد الإرهابيون شركات وطرق جديدة ليخفوا ورائها مشاركتهم في المزاد يحدث ذلك غالباً بتواطؤ من مسؤولي البنك المركزي.
بل حتى إطلاق اسم مزاد عليه يعتبر مضللاً، فهي عملية يومية يقدم فيها البنك المركزي الدولارات لعدد محدود من المصارف التجارية مقابل الدينار العراقي. وقد قامت سلطات الاحتلال الأمريكية بتأسيسه عام 2003 ليخدم غرضين: جمع ما يكفي من الدينار العراقي لدفع الرواتب نقداً للعدد الهائل من الموظفين الحكوميين ومساعدة البلد في دفع مستحقات الاستيراد بالدولار. فهو من الناحية الأساسية مشابه للعملية التي تقوم بها بعض الدول لتسهيل التجارة الأجنبية. الهدف الأساسي من هذه العملية هو التالي: تنوي شركة ما استيراد الأحذية من الهند فتذهب إلى مصرف عراقي محلي حاملة فاتورة الشركة الهندية، فيقوم البنك بالمصادقة على العملية المصرفية وإيداع المبلغ المطلوب بالدينار العراقي لدى البنك المركزي والذي يقوم بدوره بتحويل المبلغ بالدولار إلى حساب بنكي تملكه الجهة المصدرة.
لقد بدأت المشكلة بتراكم مبالغ كبيرة من الأموال غير القذرة: كان العراقيون الذين سرقوا مبالغ ضخمة من خلال العقود المزيفة أو الرشاوى متعطشين لاستبدال الدينار بالدولار ليتمكنوا من استخدامها في الخارج. ولتلبية هذه الحاجة ظهرت طبقة جديدة من الانتهازيين وقامت بتسجيل شركات وهمية وإعداد الفواتير المزيفة اللازمة لإبرام صفقة الاستيراد التي ستمول لاحقاً من خلال مزاد الدولار. خلال أيام فقط يمكن لشخص احتال على بلده بالملايين أن يصبح مالكا لأحد البيوت الفخمة في لندن. أما المواد المستوردة الوهمية فلن تترك آثاراً كبيرة لأنها كانت قد وثقت ببطاقات تعريفية وصور لأشخاص حقيقيين وافقوا أن يؤدوا دور مسؤولي الشركات مقابل حصولهم على الرشوة.
وفي كل مرة تشك فيها سلطات البنك المركزي العراقي أو البنك الفيدرالي في نيويورك، يقوم المزورون بتحديث لعبتهم من جديد.
حسب مصدر مصرفي ومسؤول عراقي سابق، ثمة مكاتب صغيرة يديرها شبان تقوم بتزوير الوثائق على نحو احترافي، فمثلاً لكي يتجنبوا دفع ضرائب البضائع المستوردة بشكل غير شرعي، يقوم غاسلو الأموال بتسجيل عشرات الشركات ومن ثم يهملونها ويختلقون شركات جديدة كلما استحق دفع الضرائب. وقد أشركوا سلطات الحدود في هذه العملية حيث يدفعون الأموال للمسؤولين ليحصلوا على شهادات استيراد مزورة ذات أختام حقيقية. وبذلك سيطر غاسلو الأموال على مبيعات البنك المركزي اليومية للدولار والتي بلغت حسب إحصائيات البنك أكثر من 500 مليار دولار منذ عام 2003 . (يعد الرقم أعلى بكثير من المبالغ التي يتم نقلها من البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى العراق لأن معظم الدولارات التي يبيعها البنك المركزي ترسل عبر حوالات إلكترونية من عوائد العراق النفطية.)
في بعض الأحيان يكون التزوير مكشوفاً على نحو مثير للضحك. ففي عام 2017 استورد العراق رسمياً كميات من الطماطم بقيمة 1.66مليار دولار من إيران، وهو أكثر بألف مرة من المبلغ الذي استورد به في عام 2016. كما استورد بطيخ بقيمة 2.86 مليار دولار من إيران بينما كان رقم السنة الماضية 16 مليون دولار. إن هذه الارقام ستكون مثيرة للسخرية حتى لو لم يتمكن العراق من زراعة ما يكفيه من الطماطم والبطيخ. لقد أخبرني بعض رجال الاقتصاد بأن أرقام الاستيراد الرسمية التي لا تزال تظهر على موقع وزارة التخطيط ما هي إلا غطاء رديء لغسيل الأموال عبر مزاد الدولار.
لقد ساعد هذا المزاد على تدفق مليارات الدولارات إلى جيوب سماسرة العراق ذوي النفوذ، ويستند هذا الغش على الفرق الموجود بين سعر الصرف الثابت الذي يوفره البنك المركزي المرتبط بالدولار ومعدل السوق المتذبذب الذي عادة ما يكون أعلى بكثير. وحالما بدأ المزاد في العام 2003 ، أدرك غاسلو الأموال بأنهم إذا ما حصلوا على صفقات استيراد يمكنهم عندها إعادة بيع الدولار الذي حصلوا عليه من البنك المركزي ليكسبوا ربحا فورياً. وحالما أدرك الزعماء السياسيين العراقيين مقدار المال الذي يجنى من هذه العملية، سرعان ما بسطوا سيطرتهم على عملية المزاد.
أما الشركات والمصارف الاعتيادية التي تريد القيام بأعمال الاستيراد أو الاقتراض المشروعة فقد وجدت نفسها محاصرة من قبل أولئك المدعومين من قبل الأحزاب السياسية والميليشيات. ومن أجل التغطية على هذه السيطرة قام هؤلاء حديثو الثراء بشراء معظم البنوك المتبقية وحولوها إلى مجرد وسائل خاصة بهم لأغراض المزاد.
ومن الاستحالة بمكان معرفة كمية المليارات المسروقة من خلال عملية بيع وشراء العملة، إلا أن الكثير من المصرفيين السابقين والمسؤولين العراقيين أخبروني بأن مثل هذا النوع من الحسابات المزورة المستخدمة للاستيراد يتم تمويلها عن طريق مزاد الدولار منذ عام 2008. وفقاً لتخميني الشخصي (المبني على أرقام من موقع البنك المركزي ومعلومات من مصرفيين عراقيين) سُرق ما مقداره 20 مليار دولار، كلها من أموال الشعب العراقي. فرجال الأعمال الذي يديرون هذه العملية يقومون بطباعة العملة الخاصة بهم لأن تكلفة ما يقومون به تعد منخفضة، وتكمن في دفع الأموال مقابل الحصول على فواتير مزورة وتقديم رشى للبنوك والمسؤولين الحكوميين. إن بعض البنوك التي تحصل على فوائد عالية من المزاد ما هي إلا واجهات لمكاتب صغيرة تكاد تخلو من الموظفين.
أخبرني برلماني كان يحقق في قضية فساد بأن أحد البنوك اشترى أربع مليارات دولار في المزاد وهو ما يحقق له 200 مليون دولار من الأرباح. وتبين بعد التحقق من هذا البنك أنه لم يكن يحتوي سوى على غرفة واحدة وحاسوب واحد وبعض الحراس.
إن الضرر الناجم عن الغش في المزاد لا يقتصر فقط على الفوائد غير المشروعة. إذ وجدت الشركات الاعتيادية نفسها غير قادرة على الحصول على القروض التي تحتاجها. كما لم يتمكن بعض المستوردين بشكل قانوني من الحصول على الدولار من المزاد فاضطروا للجوء إلى المصارف الأجنبية. ويصعب معرفة الضرر الذي ألحقته هذه العملية بالاقتصاد، لكن معظم المحللين الذين تحدثت معهم قالوا إنه مدمر للقطاع الخاص، ما يجعل العراق أكثر اعتمادا على عوائد النفط التي انخفضت إلى النصف في الأشهر الأخيرة.
حاول قائد عراقي واحد فضح الجرائم المحيطة بعملية مزاد الدولار بجدية، ففقد شعبيته. فقد قام أحمد الجلبي المصرفي والسياسي الذي ساعد إدارة بوش على تبرير غزو العراق بتحقيق برلماني حول مزاد الدولار عام 2014. وكشف وثائق تبين تورط أكبر مصارف البلد وأصحابها في عمليات تزوير واسعة. وقبل أن يقوم بكشف المزيد حول هذه الفضيحة في تشرين الثاني ٢٠١٥، توفي الجلبي جراء أزمة قلبية. (وعلى الرغم من التوقيت المشكوك فيه إلا أن تشريح الجثة لم يكشف عن وجود دليل لسبب آخر للوفاة). أما المصرفيين الذين كشفهم الجلبي في تحقيقاته فلم يواجهوا أية عواقب ومازالوا يمارسون أعمالهم.
ولا يزال المزاد قائماً حتى اليوم إلى جانب غسيل الأموال والسرقة المرتبطة به. ففي أواسط شهر آذار سجل موقع البنك المركزي مبيعات الدولار التي تجاوزت ٢٠٠ مليون دولار- أكثر من مليار دولار خلال أسبوع واحد- كان يفترض أن تذهب كمدفوعات للاستيراد. وفي الوقت الذي أُغلق فيه الاقتصاد العراقي بسبب جائحة كورونا كان من المفترض أن تكون بعض هذه المواد المستوردة شرعية، لكن بعض المصرفيين أخبروني بأن هذه الأرقام تشير إلى عمليات غسيل أموال واسعة النطاق. أحد الدلالات الأخرى الفاضحة للفساد تتمثل في مبيعات الدولار اليومية إلى مكاتب صرف العملات والتي يفترض أن تستخدم فقط من قبل العراقيين المسافرين إلى الخارج. وقد بلغ المعدل الوسطي لهذه الأرقام في منتصف شهر تموز الماضي ما يقارب 10ملايين إلى 11 مليون دولار يومياً، على الرغم من أن مطار بغداد مغلق منذ شهر آذار حتى 23 تموز، ومازالت قيود السفر قائمة حتى الآن.
وثمة دليل آخر على أن المزاد لايزال يزود الجماعات الارهابية بالأموال. ففي تشرين الأول بعث البنك الاحتياطي الفيدرالي كتاباً إلى البنك المركزي العراقي يطلب فيه منع مصرفين إلى جانب مكتب للصرافة من استخدام مزاد الدولار، مبرراً ذلك باعتقاده بأن ثمة ثلاث كيانات مرتبطة بداعش أو تقوم بتعاملات مادية مع داعش. يملك هذه المؤسسات الثلاثة رجل أعمال يدعى حسن ناصر جعفر اللامي، المعروف في الدوائر المالية بملك الفواتير المزورة. وفي شهر كانون الثاني صرح موظف في البنك المركزي العراقي لمحطة تلفزيونية لبنانية أن اللامي لا يزال يستخدم مزاد العملة من خلال بنوك أخرى تختلف عن تلك التي أشار إليها البنك الفيدرالي.
وفي بعض الحالات يبدو أن البنك المركزي يحاول بشكل مقصود عرقلة الجهود التي يبذلها البنك الفيدرالي أو وزارة الخزانة الأمريكية. ففي عام 2018 أصدرت وزارة الخزانة عقوبات ضد آراس حبيب كريم وهو سياسي متهم بتمويل الحرس الثوري وحركة حزب الله في لبنان. وفرضت عقوبات على البنك الذي كان يديره والذي يحمل اسم مصرف البلاد الإسلامي. وبدلاً من تجميد أموال كريم، وجه البنك المركزي بأن ما قيمته 40 مليون دولار من أسهم مصرف البلاد المملوكة لكريم وعائلته ينبغي أن تعود لهم وفقاً لوثيقة من البنك المركزي كنت قد حصلت عليها. وعندما سألت مسؤولي الخزانة حول قرار البنك المركزي أجابوا بعبارة جاهزة: إن الخزانة مستمرة في العمل عن كثب مع الحكومة العراقية لتطبيق العقوبات.
يعد العراق حكاية تحذيرية لباقي العالم. حكاية تلخص كيف يمكن أن يتحول أبسط أنواع الفساد بسرعة إلى آفة وكيف يصعب إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. لن يستغرق الأمر طويلاً حتى يغطي غبار الزمن هؤلاء المشتركين في شبكات الفساد، كما حدث في أفغانستان والصومال وفنزويلا. يقول ريتشارد ميسك الذي أمضى عقوداً يدرس هذا الموضوع: إنه يصبح نظام مستدام ذاتياً. لا يمكن التدخل في قطاع واحد فقط لأن جميع القطاعات مرتبطة ببعضها البعض، لذا ينبغي تغيير عدة مؤسسات في وقت واحد. يكتب ريتشارد ميسك كمساهم رفيع المستوى ويكتب في مدونة شهيرة ترصد الجهود العالمية لمكافحة الفساد.
ويصعب عمل ذلك بدون وجود قوة خارجية. فقد كانت الحكومة الأمريكية أساسية في اجتثاث الفساد في شيكاغو الذي وصل ذروته في العشرينيات من القرن الماضي عندما سيطر رجل العصابات آل كابون على عمدة المدينة بالمال. لا يوجد هناك أمثلة عديدة على إصلاح دول بأكملها في العصر الحديث عدا عن الدول الأوتوقراطية الصغيرة مثل سنغافورة عندما أطيح برئيس الوزراء السنغافوري الأسبق لي كوان يو في ستينيات القرن الماضي.
إن أحد أكبر معضلات الإصلاح في العراق تكمن في اعتماده على السيولة النقدية التي يصعب تعقبها وتكون أكثر عرضة لغسيل الأموال. لذا فإن تحويل العراقيين إلى نظام المصارف حيث تكون ثمة سجلات تبين عمليات الدفع التي يمكن التحقق منها أصبح هدفاً يطالب به أنصار مكافحة الفساد لسنين. إلا أن عملية الانتقال من النقد محفوفة بالمخاطر، إذ أن التقنيات الحديثة تكون عرضة للسيطرة عليها من قبل أفراد قلة بإمكانهم استغلال هذه العملية كأداة لغسيل الأموال.
أحد أجرأ عمليات الاختلاس في العراق تعطينا فكرة شبه كاملة عن الخطر الناجم عن هكذا عمليات. هذه العملية تستخدم جهاز يدعى بطاقة كي كارد، وكان الهدف منه نقل البلد في اتجاه الدفع الإلكتروني. تم تطوير هذا الجهاز من قبل شركة تدعى البطاقة الذكية الدولية. وهو يسمح للموظفين والمتقاعدين باستلام رواتبهم الشهرية نقداً من آلاف المراكز المنتشرة في عموم البلاد. وقبل ظهور هذه البطاقة في العام 2007 كان على الموظفين الانتظار لساعات خارج المصارف الحكومية ليستلموا أموالهم. و تتنافس الشركة الآن مع شركات أصغر وتنشر إعلانات ضخمة تحمل شعار: انضموا إلى أكبر عائلة. فهي تقدم نفسها على أنها شركة تقنية محلية تساعد بنقل العراق إلى عصر المعلومات مع صور تنشر على موقعها الرسمي تظهر عملية التسجيل البايومترية والزبائن السعداء الذين يقومون بعمليات الدفع غير النقدي. إلا أن ارتباط الشركة بالرواتب الحكومية قد منحها سلطة كبيرة. ففي عام 2019 ووفقاً لتقرير نشره البنك المركزي دفعت الحكومة ما يقارب 47.5 مليار دينار للموظفين والمتقاعدين، وهو مبلغ ضخم بالنسبة إلى حجم العراق، ومعظم هذه الأموال قد صُرفت عبر هذه البطاقة.
يسمح كل ذلك للشركة بالعمل تقريباً دون رقابة وفقا لما أفاد به مسؤولون تحدثت إليهم ووثائق حصلت عليها من وزارة المالية العراقية والبنك المركزي. فلقد تجاوزت الشركة أحد الشروط القانونية التي تنص على إدراج نظام الدفع الخاص بها ضمن شبكة الدفع الوطنية عبر البطاقات، ما يخول البنك المركزي مراقبة عمليات هذه الشركة. تصف الوثائق التي اطلعت عليها محاولات يائسة لجعل هذه الشركة مسؤولة عن عملياتها المصرفية فضلاً عن شكاوى المتقاعدين الذين بينوا أن نظام هذه البطاقة يقوم باقتطاع مبالغ من رواتبهم. قال الرئيس التنفيذي لشركة كي كارد الذي تواصلت معه عبر البريد الإلكتروني إن الشركة تلتزم بالتعليمات وإن تعاملاتها المصرفية تراقب من قبل البنك المركزي وتدقق من قبل مؤسسات مستقلة بشكل دوري.
وفي ظل هذا التعتيم، تستخدم هذه البطاقة من قبل ميليشيات مدعومة من إيران والتي تدير ما يعرف بالموظفين الوهميين لسرقة مئات الملايين من الدولارات من الدولة حسبما أخبرني بعض المسؤولون الحكوميون ومن ضمنهم شخص مقرب من الدائرة المالية للحشد الشعبي. فقد أخبرني هذا المسؤول بأن الحشد قام بتسجيل 70000جندي ضمن عملية الدفع الإلكتروني من خلال بطاقة الكي كارد (لم يكن واضحاً إن كان هذا الإجراء قد تم بعلم مدراء شركة كيو آي). طالما كان الجنود الوهميين مصدراً لإثراء كبار الضباط في الجيش والشرطة العراقية لسنين. ولكن يبدو أن طريقة الدفع ببطاقة الكيو آي قد نقلت الاحتيال إلى مستوى أعلى. إن متوسط راتب عنصر من الحشد الشعبي يبلغ ألف دولار شهريا تقريباً ويعني ذلك أن عائدات هذه الخديعة تبلغ 800 مليون دولار سنوياً. لقد أديرت هذه العملية بسرية تامة من قبل شخصيات نافذة مرتبطة بإيران ارتباطاً وثيقاً ومن ضمنهم أبو مهدي المهندس الذي اغتيل مع قاسم سليماني في كانون الثاني.
تحصل كي كارد على أرباح هائلة من الأجور التي تفرضها على التعاملات الإلكترونية، وبعض هذه الأرباح حسبما أبلغني مسؤول رفيع آخر يتم مشاركتها مع شخصيات أخرى مدعومة إيرانياً.
وحسبما أخبرني به المسؤول رفيع المستوى، قام مؤسس شركة كيو آي وهو رجل أعمال يدعى بهاء عبد الهادي بتحصين نفسه من الرقابة والانتقاد لسنوات طويلة عن طريق علاقاته التجارية مع أكثر الأشخاص نفوذاً ومن بينهم قادة الميليشيات المرتبطة بإيران. أحدهم هو عمار الحكيم رجل الدين الثري والسياسي البارز. وشخص آخر هو شبل الزيدي أمين عام ميليشيا تدعى كتائب الإمام علي، وقد أصدرت وزارة الخزانة بحقه عقوبات في العام 2018 بسبب تعاملاته المالية مع الحرس الثوري وحزب الله. فضلا عن ناصر الشمري وهو قائد لميليشيا حزب الله النجباء. أخبرتني المتحدثة باسم كيو آي أن عبد الهادي ليس له علاقة بالحكيم أو الزيدي أو الشمري.
وفي الوقت نفسه يبدو أن كي كارد حاولت التقرب من المسؤولين الأمريكيين ونجحت في ذلك بعض الشيء، ففي بداية العام 2018 اقترح أحد المسؤولين المعينين من قبل ترامب ويدعى ماكس بريموراك، على الأمم المتحدة أن تستخدم شركة كي كارد في التعاملات المصرفية وفقاً لتقرير نشر في أيار من قبل موقع بروببليكا. لقد كان بريموراك يقوم بأعمال استشارية في ذلك الوقت مع مؤسسة ماركيز العراقية الأمريكية. لم تقم الأمم المتحدة بالعمل مع كي كارد لكن موقف بريموراك قد تسبب بتحريك شكوى تتعلق بأخلاقيات العمل من قبل وزارة الخارجية الأمريكية. (وعندما تم سؤاله عن هذه الشكوى رد بريموراك بإرسال مذكرة، أشار فيها الى أن تحقيقاً لم يفتح في هذا الموضوع) ثم أصبح بعد ذلك مساعداً لنائب الرئيس الأمريكي مايك بنس.
يذكرنا تغلغل كي كارد في النفوذ الأمريكي بأن الفساد لا يقتصر فقط على الرشاوى أو التهرب الضريبي. إن أزمة عام 2008 المالية العالمية التي كشفت العلاقات بين السياسيين ومضاربي الأسهم قد ساعدت في إيقاد الحركات الشعبوية التي لا تزال نشطة في أوروبا، وانتخاب دونالد ترامب جعل الفساد صفة لحياتنا السياسية حتى وهو يتهم خصومه بهذه الكلمة.
في ظهيرة أحد أيام شهر شباط، ذهبت بالسيارة الى موقع عمراني في شرق بغداد يدعى بصدر القناة. وهو مضيق فارغ من الأرض يمتد لمسافة 24كيلومتراً بين جانبي طريقين سريعين رئيسيين في الطرف الغربي من مدينة الصدر ويحتوي على قناة في الوسط. لقد تحدثت سلطات مدينة بغداد لسنوات عن مشروع طموح يحول هذا المكان إلى منطقة ترفيهية تشمل ملاعب رياضية وحدائق ومطاعم. فضلاً عن بناء جسور فوق القناة حيث يمكن للزوار أن يركبوا القوارب من تلك المنطقة. وفي عام 2011 وقعت الحكومة المحلية عقداً مع ثلاث شركات إنشاءات بقيمة 148 مليون دولار. أما اليوم فهذا المكان عبارة عن مكب للنفايات لا يبدو أن أي مبلغ من المال قد أٌنفق عليه. فبعد ما عبرت الطريق السريع ووطأت العشب وجدت قدمي غارقتين بالنفايات البلاستيكية. مشيت بعدها لمدة عشرين دقيقة ولم أر سوى علامات معدودة تدل على البناء: ملعب رخيص للأطفال وأكوام من التراب و مستودعين من الإسمنت المسلح لم يكتمل بنائهما. أما ماء القناة فقد بدا راكداً.
يبدو أن لا أحد يعلم ما هو مصير الأموال التي أنفقت على صدر القناة لكن تقرير هيئة النزاهة كان يشير إلى ملاحظات مألوفة: تأخير وخلافات ورئيس بلدية سابق كان قد فر من البلاد مع نائبه متسبباً بأضرار متعمدة بلغت 12 مليون دولار. ذهبت معظمها إلى جيبه الخاص. وثمة مشاريع مشابهة في عموم العراق: رافعات صدئة متروكة بجانب جوامع نصف مشيدة ومشاريع إسكان. والكثير منها لا يزال قيد النزاعات القانونية والسياسية. مليارات الدولارات قد أنفقت على الكهرباء لكن العراق لا يزال يعاني من انقطاع في الطاقة الكهربائية تصل مدته إلى عشرين ساعة يومياً.
يطلق العراقيون على رجال الأعمال المشبوهين الذين أصبحوا أغنياء على حساب البلد اسم الحيتان، فهم دائماً فوق القانون. وقد تم تحذيري وأنا أعد هذا المقال بأن حياتي ستكون في خطر إذا ما واجهت اي منهم حول هذه النشاطات غير المشروعة، لكني نجحت أخيراً في التحدث مع أحد “الحيتان”. هو أحد اقطاب البناء وأخبرني أنه أمضى سنوات وهو يقدم الرشوة للسياسيين لتأمين عقود تبلغ قيمتها ملايين الدولارات. وصف الرجل عالماً مليئاً بصفقات الغرف المظلمة التي يكون التنافس المميت فيها أمراً مألوفاً، فضلاً عن التحالفات السياسية المتغيرة بسهولة حيث تكون العملة المستخدمة فيها دائما الدولار النقدي الذي يدفع مقدماً. وكان واضحاً بأنه قد قبل بالابتزاز المالي كجزء من واقعه اليومي. ولم يشعر بأي ذنب حيال هذا الشيء. لديه مكاتب ومنازل في عدة دول وتحدث بالعامية العراقية كرجل لم يحصل على قدر كبير من التعليم الرسمي.
لقد تعرفت على ذلك الشخص عن طريق أحد المسؤولين الحكوميين كان قد التقاه عن طريق صديق آخر. كان من المحال ان أتحقق من صحة تفاصيل القصص التي رواها لكنها كانت تتطابق مع كل ما سمعته من المسؤولين والمصرفيين حول الطريقة التي يصنع بها الفساد عالي المستوى. تحدثنا عبر الهاتف لمدة ساعتين تقريبا، وأخبرني عن إحدى الصفقات التي أدارها وكانت عبارة عن مشروع بناء كبير خصصت له الحكومة مبلغ 40 مليار دينار، أي ما يعادل 33 مليون دولار تقريباً.
قال لي أنه في الحقيقة أنفقت حوالي 10 مليار دينار فقط على البناء. ذهب الباقي كرشى للمسؤولين والاحزاب أما المبلغ الباقي البالغ خمسة مليار دينار فقد كان صافي الربح.
لقد أخبرني بأن انتخاب المحافظين في السنوات الست أو السبع الماضية الذين يكون لهم تأثير كبير على العقود قد تم عبر صفقات مع رجال الأعمال الذين يدفعون الأموال لأعضاء مجالس المحافظات الذين ينتخبون المحافظ مقابل حصة في عقود المحافظة. وقال إن أي شخص يمتلك المال يمكن أن يتلاعب بهذه الأمور. إذ يتم تنسيق الصفقات مع نواب المحافظين الذين يكون ولاؤهم لأحزاب مختلفة ويقتسمون عوائد العقود المتضخمة. حسبما أخبرني هذا الرجل، يمكن لعقد ضخم أن يوفر رشاوي تغطي تكاليف انتخاب المحافظ.
إن المسؤولين الحكوميين ليسوا مجرد متلقين للرشوة كما أخبرني، إذ إن أعضاء مجلس المحافظة يطرقون أبواب رجال الأعمال ويسألونهم: كيف بإمكانهم تقديم المساعدة؟ هل هناك أحد ما يتوجب عليهم تلطيخ سمعته؟ هل هناك تآمر ما يتوجب عليهم تعزيزه؟ هل هناك أحد يجب إخبار لجنة النزاهة عنه؟ إن مثل هذه الفنون الملتوية يكون المال فيها اللاعب هو الأول. فمثلا إذا ما أردت أن تتآمر ضد حزب الدعوة سيقوم أعضاء من مجلس المحافظة بالتعاون معك إذا ما دفعت لهم المال، حسبما قال لي.
ويقف خلف كل تلك الصفقات الميليشيات التي توفر الحماية وتأخذ حصتها من المال. قال لي إن أي رجل أعمال أو بنك بدون جماعة مسلحة تدعمه لن يتمكن من العمل.
لا يعد ذلك مفاجأة بالنسبة للعراقيين حيث يمكن لهم أن يروا كيف أن أجهزة مكافحة الفساد أصبحت وسائل لانتشار الرشوة. وللأسف فإن هذه لا تعد مجرد اتهامات بدون دليل. فعندما كنت في بغداد ذهبت للقاء مشعان الجبوري رجل الأعمال والسياسي الذي يبلغ من العمر 63 سنة بارز العينين وأصلع الرأس. كان رجل أعمال في الثمانينات وهرب خارج العراق في نهاية ذلك العقد لينضم إلى المعارضة. وفي عام 2006 هرب من العراق مرة أخرى بعدما أتهم بالتخطيط لهجمات استهدفت أنابيب النفط. ثم عاد إلى العراق وانتخب في البرلمان وأصبح عضواً في لجنة النزاهة. أخبرني بينما كنا جالسين في منزله في الحارثية أن الجميع متورط ومن ضمنهم المتدينين والعلمانيين في القرى والمدن، من القادة حتى أصغر الأعضاء رتبة. أصبحت ثقافة يفتخر بها الناس.
وفي عام 2016 أحدث الجبوري ضجة صحفية عالمية عندما أخبر صحيفة الجارديان أنه هو نفسه متورط بالفساد حيث أخذ رشوة بقيمة ٥ مليون دولار من شخص أراده أن يسقط تهمة فساد عنه. حيث أوضح للصحفي أنه على الأقل هو صادق فيما يقول.
ولكن عندما التقيته في شهر شباط تراجع الجبوري عن هذا الاعتراف مدعياً أنه اخترع قصة الرشوة هذه، فحدقت فيه على نحو يوحي بعدم التصديق وحدق هو الآخر قائلاً: أردت إحداث هزة في المجتمع، أما الآن فلا حاجة لمثل هذه الأمور لأن المتظاهرين يقومون حالياً بمثل هذا الدور. وبالنسبة للمراقبين الذين يشاهدون الوضع من قارات أخرى فإن المظاهرات في الشوارع التي اندلعت في المدن العراقية بدت كأنها ثورة مفاجئة، لكنها في الحقيقة كانت تغلي منذ سنوات في عموم العراق. لقد أخبرني أحد المتظاهرين الشباب وكان قصير القامة يبلغ من العمر 28 سنة من إحدى قرى السماوة يدعى موسى (طلب عدم ذكر اسمه الأخير خوفا من الانتقام) حول اقتصاد العصابات الموجود في العراق حيث تكون فيه المؤهلات الحقيقية مستبعدة ولا تأتي عروض العمل إلا بأسعار باهظة تعادل رواتب عدة أشهر. فبعدما أمضى خمس سنوات في دراسة علم البيطرة لم يجد سوى فرصة عمل واحدة وهي عقد لمدة سنة براتب 200 دولار في الشهر، والذي طرد منه لأنه لم يلب رغبة مديره بانضمامه إلى إحدى الميليشيات. ولم يكن لديه خيار آخر سوى القبول بوظيفة في أحد دوائر الكهرباء المحلية براتب 375 دولار في الشهر.
لقد بدأ تمرده قبل أكثر من سنتين عندما عثر على وثائق تبين تورط مدير دائرة الكهرباء بتلقي رشاوي في عقود حكومية. لقد ساعد موسى في تنظيم احتجاجات تطالب بطرد المدير. (وقد تم طرده بالفعل حسب رواية موسى). وفي السنة التالية بدأ موسى التواصل مع شباب آخرين في عموم العراق ممن كان لديهم تجارب مشابهة ويحملون نفس المشاعر، إذ يعتقد الكثير منهم أن بلدهم أصبح وعاءً لإيران وعصاباتها المحلية. وبحلول صيف عام 2019 بدأت شبكة من الاحتجاجات المحلية بالاتساع أكثر فأكثر وكان موسى من بين المنظمين الذين دعوا إلى العصيان الذي بدأ في 1 تشرين الأول.
وبعد قرابة أسبوع وجد نفسه جالساً على أريكة مقابل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي حين كان البلد يغلي. لقد قتل أكثر من ١٠٠ شخص في صدامات فوضوية مع الشرطة وكان الاقتصاد راكداً. كان عبد المهدي يائساً بشأن استعادة النظام فدعي موسى وثمانية آخرين من قادة الاحتجاجات ليسمع منهم. وقد سلمه موسى ورقة تتضمن مطالب المتظاهرين التي قرأها الأخير بسرعة وبصمت. وكان التصدي للفساد أحد هذه المطالب وبعد حوار قصير سأل أحد مستشاري عبد المهدي قائلا “أعطونا قائمة بأكثر المسؤولين فسادا”.
اندهش وارتبك موسى الذي كان يتسم بالصبر من هذا الطلب على ما أخبرني، فهو كان يعلم أنه مطلوب بالفعل للاعتقال من قبل قوات الأمن، وعليه الاختباء بعد فترة قصيرة مثل الكثيرين من قادة الاحتجاج الآخرين. لقد كان يعلم أيضاً أن من المرجح أن الكثير من الشخصيات الفاسدة جلسوا على نفس الأريكة! وكان جوابه على السؤال: “هذا ليس من اختصاصنا إنما هو عملكم”، وانتهى اللقاء بعد عشر دقائق. أعلن عبد المهدي بعد ذلك بفترة قصيرة أن المظاهرات تفتقد إلى الزعامة وكان يمكن قول نفس الشيء بشأن حكومة عبد المهدي! لذا وبعد أقل من شهرين وبعد تصاعد التمرد أعلن عبد المهدي استقالته.
لقد فاجئت المظاهرات العارمة الجميع ووقفت الميليشيات لأول مرة في موقف الدفاع منذ سنوات بعدما استهزأ بهم بعض المتظاهرين بنعتهم باتباع الإيرانيين. وشارك فيها حتى بعض أعضاء الحشد.
لقد مرر البرلمان قانوناً يسمح لهيئة النزاهة بالتحقق من مدخولات الموظفين العموميين وفرض غرامات أو سجن على كل من لا يتمكن من إثبات مصادر دخله المالي. التقيت في بغداد بالمحامية مروى عبد الرضا التي أطلعتني على هاتفها الخلوي كيف أنفقت نقابة المحامين العراقية أموال طائلة على إنشاء حوض سباحة. لقد كُشفت الفضيحة قبل أن يتمكن أي محام من السباحة في هذا الحوض! قالت لي: لقد أُنفق الكثير في الماضي ولم يتكلم أحد من المحامين، أما الآن فالوضع مختلف.
إن روح عدم التنازل هي ما أبقى تلك المظاهرات متقدة، على الأقل لحين ظهور جائحة كورونا، فبعد أشهر من المظاهرات رفض المحتجون تسمية أي شخصية لمنصب الرئاسة وقد علق المتظاهرون على هذا الموقف: أرادوا أن يغيروا النظام لكن أي شخص يحاول الاقتراب من التغيير حتى وإن كان من بينهم يصبح مشتبهاً به. كان الأبطال الوحيدون هم القتلى من زملائهم المتظاهرين الذين تظهر صورهم في الساحات.
وثمة صراع في صلب حركة المظاهرات يحاول أن يتحرر من تاريخ البلد العصيب. إذ يدرك الكثير من الشباب أن العراق، كباقي المستعمرات القديمة في آسيا وإفريقيا، غالباً ما كان يرفع العسكريين ورجال الدين إلى مرتبة الآلهة لكنهم كانوا يتحولون إلى وحوش وهذا أحد الأسباب التي تكمن خلف رفض المتظاهرين أن يكون لهم قيادة معينة تمثلهم. فهم يعلمون أن ما يهم الآن هو بناء المؤسسات وليس تسمية المنقذين. لكنهم أيضاً يتوقون إلى إيجاد شخصيات عامة مرموقة تقودهم وتلهمهم.
لقد بزغ في بداية التظاهرات قائد بدى أنه بطل من النوع غير العادي. عبد الوهاب الساعدي يعد من كبار ضباط جهاز مكافحة الإرهاب وهو شخصية محبوبة في عموم العراق ليس فقط بسبب سجله العسكري في محاربة داعش، وإنما يقال بأنه يكاد يكون الوحيد من بين كبار الضباط ممن لا ينحازون إلى حزب معين ولم يستلم أية رشوة. وفي أيلول الماضي قرر رئيس الوزراء فجأة عزل هذا القائد مما دفع بالمتظاهرين إلى اعتباره شهيداً سياسياً خسر المعركة لأنه رفض أن يلعب اللعبة. لقد بدؤوا برفع صوره هاتفين باسمه. والبعض نادى بأن يكون بديلاً لعبد المهدي. لكن الساعدي أجاب على هذه النداءات بشيء من عدم الثقة. فقال إنه رجل عسكري غير مؤهل لمنصب سياسي. فخاب أمل بعض المتظاهرين بينما اعتبر البعض هذا الموقف كوسام شرف.
الساعدي رجل ذو قامة طويلة يبلع من العمر 57 سنة، ذو شخصية رزينة وشعر أشيب. على الرغم من انتمائه إلى الطائفة الشيعية إلا أن أهل الموصل، وأغلبهم من السنة، يعتبرونه المحرر من طغيان داعش فنصبوا له تمثالاً هناك. (لكن الحكومة شعرت بخطر هذه الحركة فقامت بإزالة التمثال قبل أن يُدشن) وعندما التقيته في شهر شباط كان لايزال يشعر بالاهتمام الذي تلقاه شعبياً وأخبرني عن عدد المكالمات التي تلقاها من الأحزاب السياسية التي أملت أن ينحاز لها أو أن تتبناه. إذ قال في هذا الصدد وهو يدخن سيجارته إن رئيس الوزراء يريد أن يستخدمه ليحصل على دعم الرأي العام.
لم يكن الساعدي مرتاحاً في الحديث عن نفسه فقد كان يتسم بتواضع المتقشف وعادة ما كان يضع يديه في جيوبه وينظر بعيداً كأنه يقيم وضع إحدى المناورات العسكرية في الميدان على عكس سلوك الشخصيات السياسية العراقية التي دائما ما تشعر بأهميتها. فعادة ما يكون السياسيون ممتلئي الجسم و ثرثارين في الحديث بينما كان هو نحيلاً ومتواضعاً. وغالباً ما يمتلكون المنازل المرفهة في لندن وعمان بينما يعيش الساعدي في شقة ببغداد. أنا لا أمتلك دليلاً على أن الساعدي لم يستلم رشوة لكن كثير من العراقيين يتمنون احراجه ومع ذلك لم يظهر أي دليل ضده. إنه نزيه لدرجة أنه رفض مساعدة ابنه الذي انضم للجيش وهو مستوى من النزاهة رأى بعض زملائه أنه غير طبيعي. وعندما سألته عن هذا قال لي إن والده توفي وهو صغير السن وأن أخاه الأكبر قد أعدم على يد صدام حسين فكان على الساعدي أن يشق طريقه بنفسه وساعده ذلك في عدم الانزلاق في الترهل العسكري. وقد أراد نفس الشيء لابنه الذي قال له “يجب أن تعتمد على نفسك”. وقال: “لم أساعده في منح الرتب أو الإجازات أو الامتيازات”.
وفي مساء أحد أيام الجمعة، التقيت الساعدي في أحد المقاهي “مقهى رضا علوان” في أحد أحياء الطبقة الوسطى التي تعج بالحياة. جلسنا على طاولة في الخارج تحيط بنا رائحة القهوة ونكهة التبغ. وعلى الرغم من أنه كان يتسم بقلة الكلام إلا أنه قد بدا مرتاحاً في الحديث عن السياسة والتاريخ وقد تمت مقاطعة الحديث مراراً بسبب الزبائن الذين كانوا يريدون مصافحته والتقاط الصور مع بطل الموصل. كان يستجيب لهم جميعاً بابتسامة خجولة وعندما سألوه إن كان سيؤدي أي دور في الحكومة الجديدة كان يلوح لهم ويقول “إن شاء الله” (بعد لقائنا الأخير قام رئيس الوزراء الكاظمي بإعادة تعيين الساعدي وترقيته).
وعندما حاولنا مغادرة المقهى. تعرف عليه الناس في الشارع حالما وقف وتجمهروا حوله. ووقف برحابة صدر يلتقط الصور ويصافح الناس. بينما كانت السيارات تبطئ في مسيرها لإلقاء نظرة عليه وسمعت أحدهم يصرخ “انظر! إنه الساعدي” وبدأت إحدى النساء تزغرد. شعر حراسه بالتوتر لكن لم يكن بوسعهم فعل شيء فقد أراد الجميع أن يحظى بلحظة معه.
وبعد 15 دقيقة وبينما كان لا يبعد سوى مسافة أقدام عن المقهى، أصبح الشارع مكتظاً. وبدأ رجل متوسط العمر بإنشاد أهازيج حول بطولة الساعدي وعن دوره في إنقاذ العراق من داعش. بينما صفق الناس مبتهجين وهم يلتقطون الصور. ثم تدافع سائق أجرة شاب يرتدي جلابة سوداء بين الحشود وراح يخبر الساعدي كيف أن أخاه قد قتل في ساحة الاحتجاجات في بغداد. وشكر الساعدي على جميع ما قدمه ثم أفسح المجال لمعجبين آخرين بالدخول. جاء بعد ذلك جندي يعتمر خوذة ويرتدي درعاً واقياً وبدأ يناشد الساعدي أن يكون وزير الدفاع المقبل. ثم ظهر رجل شرطة وهو يقول “نريده وزيرا للداخلية”.
وبينما كنت واقفا في الظلام، تأثرت عند رؤية تلك الوجوه التواقة المليئة بالأمل. إن كل ما يطلبونه هو ما يعتبره الكثيرون منا، المحظوظين كفاية، من الأمور المسلم بها، على الأقل في هذا الوقت: بيروقراطيين نزيهين نسبياً، شوارع نظيفة، ضباط شرطة لا يطلبون الرشوة. إنهم يريدون بلداً.